خاشقجي والإعلام ومغيبو سورية

خاشقجي والإعلام ومغيبو سورية

23 أكتوبر 2018
+ الخط -
غاب المشهد السوري عن الشاشات العربية وغيرها خلال الأيام الماضية، فالإعلام كان مشغولًا بقضية اختفاء الصحافي السعودي جمال خاشقجي، وأصبحت الأخبار تموج كموج البحر بين أخذ وردّ في قضيته.

وللإعلام دور متزايد كأحد أسلحة العصر الحاضر، وله أهمية خطيرة في تغطيته لإدارة الأزمات ومعالجتها، ومنها أزمة خاشقجي، نظرًا لما يتوفر له من قدرات كبيرة تتمثل في انتقاله بسرعة كبيرة للجمهور، واجتيازه للحدود، وبما يملكه من وسائل مقروءة ومسموعة ومرئية، ولما له من قدرات كبيرة على التأثير النفسي القوي في الرأي العام، والسيطرة الفكرية، وإقناع الجمهور في المجتمعات المختلفة، فعندما علم خاشقجي بأنه لم يعد باستطاعته الكتابة الصحافية في القضايا السياسية والفكرية قرر الهجرة إلى أميركا.

ففي تاريخ 29 أغسطس/ آب 2017 كتبت تغريدة عن خروج خاشقجي إلى الولايات المتحدة الأميركية وعدم رغبته في العودة، وعلى أثرها كتب لي على الخاص أحد علماء وأدباء المملكة العربية السعودية ينفي هذا الأمر نفيًا تامًا، ويدعوني إلى حذف التغريدة مباشرة، عندها أدركت بأن خاشقجي شخصية إعلامية سياسية لا يمكن تجاهلها من قبل أعدائه، حيث كانت يده لا تفارق قلمه، وكانت صورته لا تفارق الكاميرا، ولا تغيب عن الشاشات، فهو يريد الخير للعالم العربي بفكر إصلاحي تنويري.


ولما حصلت عملية الاغتيال في القنصلية استطاعت تركيا عبر استراتيجية إعلامية تُبنى على ما يتوفر من معلومات من تجاوز هذه الأزمة، ووضعت كما هو ملحوظ الخطط وبدائل هذه الخطط وفق حجم المعلومات المتوفرة ودقتها وتوقيتها، مع الأخذ بالاعتبار حرية اتخاذ القرار لدى واضعي الخطة والخبرات والمهارات الإعلامية والأمنية المتوفرة، والإمكانات المتاحة والمحتملة، فمن استراتيجية التركيز إلى استراتيجية التوقيت في نشر الخبر وإطلاق التصريحات.

رحل صاحب القلم الحر الشجاع المدافع عن حقوق الإنسان ذو التوجه الإصلاحي، وإنصاف الشعوب المقهورة.. رحل خاشقجي ورحل قبله العشرات من الإعلاميين السوريين الذين صدحوا بقول الحق، ولم يتكلم عنهم أحد بقدر ما تكلموا عن جمال.. رحل خاشقجي ورحل معه صوت الحق في نصرة المظلومين المقهورين..

رحل خاشقجي ورحل قبله زاهر الشرقاط وناجي الجرف ومشعل تمو وغيرهم من الذين صدحوا بصوتهم عاليًا لينيروا الطريق لمن بعدهم، بل وتخلفت الكثير من وسائل الإعلام الدولية والعربية والمنظمات الإنسانية والحقوقية عن تغطية خبر اغتيالهم، فالإعلام عندهم تفاضلي بين صحافي وآخر، ولم تطبل وتزمر لهم منشورات الفيسبوك ولا تغريدات التويتر ولا نشرات الأخبار كما فعلت وفعل من طبلوا وزمروا لقتل خاشقجي.

بل ورحل قبله مئات الآلاف في سورية الحبيبة ما بين مفقودين ومعتقلين وشهداء خلال سبع سنين لا بواكي لهم ولا إعلام يسأل عنهم، ومجزرة في دير الزور قبل أيام يغيب فيها أكثر من سبعين شهيدًا لا ذكر لهم في الإعلام إلا ما رحم ربي.

اغتيال خاشقجي ضجة إعلامية عابرة في زمن الصمت عن مغيبي سورية.. ضجة ستبقى كشعرة معاوية تتحرك عندما تريد الدول تحريكها كما حصل في اغتيال الحريري وغيره.

ولكن وإن مات خاشقجي فإن فينا ومنا ومعنا ألف خاشقجيٍ آخر، ولن يسكت صوت الحق، وسيبقى ما بقي الزمان صوتًا عاليًا مدافعًا عن صرخات المعتقلين والمغيبين والمفقودين، إنّ هذا الصوت سيعلو ما بقي على وجه الأرض مظلوم يصرخ، ومعتقل مغيب.

وأخيرًا.. يثبت الإعلام مرة أخرى قوته على الساحة السياسية، وأنه القوة التي تستطيع تحريك العالم بحسب سياسة كل بلد، فالنظام السياسي وقت الأزمات بحاجة إلى الوسائل الإعلامية لتنقل وجهات نظره، وهو يطمح إلى استغلال قوة وتأثير الإعلام لتحقيق هدفه، وفي نفس الوقت يخشى النظام السياسي من القوة الإعلامية التي تتمتع بها وسائل الإعلام أن تستغل ضده، فلقد شاهدنا وقرأنا وسمعنا إعلامًا يندى له الجبين في التعامل مع قضية خاشقجي فهو إعلام يخشى الكلمة الصادقة والرأي الحر والقلم النبيل.
9CB9D514-057A-4B65-B25D-9B791E559FD6
عبد الله لبابيدي

باحث في الدراسات الإسلامية والإعلامية.

مدونات أخرى