كتاب الحماقات وموسوعة المنسيين!

كتاب الحماقات وموسوعة المنسيين!

22 أكتوبر 2018
+ الخط -
"ينبغي عدم الاستخفاف أبداً بقوة الكتب"، كان بطل رواية (حماقات بروكلين) للكاتب الأميركي الرائع بول أوستر يؤمن بهذه العبارة، ولذلك لم تكن دماغه تتوقف أبداً عن التفكير في مشاريع كتب جديدة يحلم بتأليفها يوماً ما، ويقاوم بالتفكير فيها إحساسه بالضجر والتململ، لأنه يخاف من نفسه حين يصبح العالم حوله مملاً بشكل لعين، ولذلك كان يفضل أن يخرج الأفكار التي تدور بداخله أولاً بأول، لكي يتجنب القيام بعمل شرير حين تحتبس أفكاره بداخله وتجعله مُسمّماً وعدوانياً.

لم يكن بطل (حماقات بروكلين) كاتباً محترفاً، بل كان مندوباً لشركة تأمين على الحياة، لذلك يمكن أن تصفه بأنه "أنفق معظم حياته العملية في مجال الموت"، حيث سمع أكثر مما ينبغي من قصص الناس الكئيبة، فلم يعد قادراً على منع نفسه من استدعاء أشد تلك القصص الكئيبة، حين تكون حالته النفسية متدهورة"، ومع أن الرواية تبدأ بعبارة ترد على لسانه يقول فيها: "كنت أفتش عن مكان هادئ أموت فيه"، وتروي لنا كيف وجد البطل نفسه يعود بعد سنوات من الترحال إلى الحي الذي عاش فيه، زاحفاً إلى مسقط رأسه ككلب جريح، لكنه برغم كل ما أصبح يداهمه من نوبات من الإحساس بالوحشة والاكتئاب، ظل يحرص على أن يحتفظ بنبرة صوته عابثة وخفيفة، ليقاوم سيطرة المزاج السوداوي عليه، ولأنه يدرك خطورة الأفكار التي تتولد بفعل الكسل، "وهذا شيء يفهمه على الفور كل من يعيش وحده"، يقرر أن يهرب من سطوة الأفكار الكئيبة، بأن ينشغل بمشاريع يسجل فيها ما رآه خلال حياته من لحظات نادرة وغير متوقعة، لعل ذلك يساعده على أن يصمت الصوت داخل رأسه، فيشعر ولو للحظات بأنه متحدٌ مع العالم من حوله.

في البدء قرر بطل بول أوستر أن ينشغل بمشروع طموح، اختار أن يسميه (كتاب الحماقة الإنسانية)، نوى أن يدون فيه "بأبسط وأنقى لغة ممكنة سرداً لكل خطأ فاضح وغلطة مضحكة وتصرف محرج وحماقة ونقطة ضعف وكل فعل تافه ارتكبه على امتداد حياته المهنية المتفاوتة كإنسان"، ومع أنه قرر أن يكون صادقاً مع نفسه، حين اعترف بأنه يتصف بالحقارة أحياناً "ولكن ليس طوال الوقت"، لكن ما يميزه عن باقي الحقراء الذين يمتلأ بهم الكوكب الأرضي، أنه لا يتصف بالحقارة كمبدأ، كما يفعل البعض ممن تحولت لديهم الحقارة إلى عقيدة ومنهج حياة، ومن هنا جاءت العقبة الأبرز أمام مشروعه، فهو يعرف أن حماقاته لن تكون كافية لإنتاج كتاب بأكمله، خاصة أنه في أيامه الطيبة يصبح عذباً وودوداً، لذلك قرر أن يبدأ بالكتابة عن حماقاته، وبعد أن تفرغ جعبته من القصص عن نفسه، يبدأ بتسجيل الحماقات التي حدثت لأناس عرفهم طوال حياته. وحين يجف ذلك المعين أيضاً، سيتناول الحماقات التاريخية، وبعد ذلك طبقاً لتعبيره: "سأسجل حماقات إخواني من البشر حتى تنتهي الصفحات، بدءاً بالحضارات البائدة للعالم العتيق وأستمر حتى أبلغ الشهور الأولى من القرن الحادي والعشرين".

وقبل أن يسأله أحد من قرائه المحتملين، عن أهميته الشخصية التي قد تشجع قارئاً على اقتناء كتاب يقوم في جزء كبير منه برصد حماقاته، يرد على السؤال المحتمل قائلاً إنه حتى لو لم تكن لشخصه أي أهمية، فيكفي أن كتابه سيكون مضحكاً، لأنه قرر منذ البداية ألا يصدره ككتاب يعري فيه روحه، أو ينغمس فيه في تأملات كئيبة، بل ستكون نبرة الكتاب خفيفة وهزلية على طول الخط، خاصة أن هدفه الوحيد من كتابته هو توفير التسلية لنفسه، واستهلاك أكبر عدد ممكن من ساعات النهار، ولذلك بدأ بتدوين قصص الحماقات في بطاقات قام بجمعها في صندوق، وبعد أن تزايدت خلال فترة بسيطة، بدأ يقسم البطاقات على صناديق عديدة: صندوق للتفاهات اللفظية، وآخر للتشوهات الخلقية، وآخر للأفكار المخفِقة، وغيره للزلات الاجتماعية.


وبعد أن انتهى جامع الحماقات من تسجيل كل ما يعرفه عن تلك الأنواع المثيرة للاهتمام من الحماقات، بدأ يهتم بتسجيل اللحظات الهزلية في حياته اليومية، بدءاً من العدد الذي لا يحصى لأصابع قدميه التي قام "بتعويرها"، ومروراً بالمرات الكثيرة التي انزلقت فيها نظاراته من جيب قميصه وهو ينحني ليربط حذاءه، وقد كان في بعض تلك المرات المزيد من قلة القيمة، حين تعثر نحو الأمام وسحق نظارته تحت قدميه، وانتهاءاً بما هو أشد ألماً كالضربات التي تلقاها على رأسه على امتداد حياته، وحين انتهى من تدوين كل ما وسعه أن يتذكره من تلك اللحظات، توغل في ذاكرته ليبحث عن الغلطات المضحكة النادرة التي وقع فيها في سنوات طفولته الأولى، والتي كان من أكثرها حماقة تلك المرة التي فتح فيها فمه ليتثاءب في أجازة عيد العمال عام 1952 فسمح لنحلة طائرة بأن تلج فمه، وابتلعها في غمرة رعبه واشمئزازه بدلاً من أن يبصقها.

ولأن حياة بطل بول أوستر التي يحكي عنها في روايته ـ التي ترجمها أسامة منزلجي وصدرت عن دار المدى ـ اتضح له أنها كانت مليئة بحماقات أكبر بكثير من تلك التي يمكن أن يتسع لها وقته وجهده، فقد قرر الانشغال بحماقة جديدة، حاول أن يجد فيها ما يشغله عن دوي الصوت الذي لا يتوقف داخل رأسه، حيث قرر أن ينشغل بفكرة كتاب جديد، قرر هذه المرة أن لا يجعله كتاباً عادياً، بل يجعله نواة لشركة كبيرة تغير شكل التعامل مع الموتى، وتستهدف بالتحديد مشاريع الموتى العاديين، الذين كان يعتبر نفسه واحداً منهم، فمع أن البشر كلهم يموتون، وتُحمل جثثهم لتُدفن في الأرض، إلا أن الغالبية العظمى من البشر لا تحظى بالحظ الذي تناله قلة من مشاهير الموتى.

هؤلاء الموتى العاديون المغمورون الكادحون، والذين كانوا في حياتهم أحياء عاديين مغمورين كادحين، نمر بهم في الشارع ونكاد لا نلاحظ وجودهم، حين يموتون لا يعرف برحيلهم إلا أسرهم وأصدقائهم، لا يعلن أحد عن موتهم في الإذاعة والتلفزيون، لا تنشر الصحف الكبيرة ولا حتى الصغيرة نعيهم، لا يؤلف أحد كتباً عن مشوارهم في الحياة، فكل ذلك "شرف مخصص لذوي السلطان والشهرة، لذوي المواهب الخارقة"، ولذلك تتلاشى معظم الحيوات التي عاشت على ظهر الأرض بفضل ذلك التعامل الجائر، ويختفي كل أثر لحياة الأشخاص العاديين، الذين لم يترك أحدهم اختراعاً يبقى خلفه، كما ترك المخترعون خلفهم اختراعات تخلدهم، ولا بناءاً يبقون أحياء من خلاله، كما يبقى المهندسون المعماريون حياً من خلال أبنيتهم، ولك أن تمد الخط على استقامته، وأنت تقارن بين ما يتركه خلفهم المشاهير والناجحون والمتحققون، وبين معظم الناس الذين "لا يتركون وراءهم نُصُباً تذكارية ولا إنجازات خالدة، بل رفاً من ألبومات الصور الفوتوغرافية، أو تقريراً مدرسياً عن إنجازات الصف الخامس، أو جائزة في لعبة البولينغ، أو منفضة سجائر سُرِقت من غرفة في فندق بفلوريدا في صباح اليوم الأخير من أجازة تكاد لا تُذكر".

أليس هذا كل ما يبقى من ملايين الناس حين يموتون، "بضعة أغراض، بضعة وثائق، وانطباعات متفرقة عند أناس آخرين"، لكن أليست هذه الانطباعات في النهاية قصصاً، أو مرتبطة بقصص وحكايات، ألسنا دائماً نرى كيف لا يكف الناس عن نسج الحكايات عن الشخص الميت، فلماذا إذن نسمح لتلك القصص بأن تختفي، حين يموت بدورهم الذين رووها، ولماذا أيضاً نسمح للذاكرة بأن تقوم بخلط تواريخ تلك الوقائع المروية عن الموتى العاديين، "فتسقط الحقائق وتتشوه الحقيقة بإطراد"، لماذا لا نقاوم ذلك احتراماً لتلك الحيوات الإنسانية الغالية، التي لا تستحق ذلك الضياع والتلاشي المؤسفين؟

من أجل ذلك كله بدأ بطل (حماقات بروكلين) يطارد حلمه الجديد بتكوين شركة تنشر كتباً عن المنسيين في العالم، من أجل إنقاذ الحقائق والقصص والوثائق المرتبطة بحياتهم، قبل أن تختفي إلى الأبد، ليقوم بصياغتها على صورة رواية متواصلة كأنها تروي حياة إنسان واحد، ولكي ينجح في تحقيق ذلك، سيبدأ بتكليف الأصدقاء والأقرباء ذوي الصلة بكتابة سير الراحلين الغاليين دون أن يتقيدوا بأساليب محسنة منمقة، ليقوم باستلام تلك المادة وتحويلها إلى كتب يؤلفها بنفسه في كتب متفاوتة الحجم حسب المادة المرتبطة بكل راحل منسي، لتتم بعدها طباعتها في طبعات صغيرة الحجم، ما بين خمسين إلى ثلاثمائة أو أربعمائة نسخة على الأكثر، وحين يصبح الطلب على تلك الكتب كبيراً جداً، قرر ألا يحتكر تأليفها بنفسه، فلن تكون هناك مشكلة في استخدام أشخاص آخرين ليساعدوه في مشروعه، "شعراء وروائيين مكافحين وصحفيين سابقين وأكاديميين عاطلين عن العمل".

ولأن بطلنا الحالم قضى عمره بصحبة الأرقام والحسابات، كما قضاها بصحبة القصص والحكايات، لم يكن البعد المالي غائباً عنه وهو يحلم بمشروعه المتفرد، ولأنه أراد ألا تكون تلك السير التي تخلد المنسيين، رفاهية لا قيدر على دفع ثمنها غير الأثرياء، فهي بحكم طبيعة فكرتها تستهدف الأسر ذات الموارد الأقل، فقد قرر أن يقوم بتمويل فكرته بطريقة مبتكرة، يجمع فيها خبرته كمندوب تأمين بهوسه بالكتابة، فقام بتصور نمط جديد من بوليصات التأمين، يدخر الشخص بموجبها مبلغاً معيناً لا يكاد يذكر كل شهر، ليتمكن من دفع نفقات الكتاب الذي سيخلد حياته بعد أن يموت، وإذا كان الإنسان يقبل بتحمل تكاليف بوليصة تأمين على المنزل أو على الحياة، فلماذا لا يقبل بتحمل تكاليف بوليصة تأمين على السيرة.

"هل كنت مجنوناً عندما حلمت بأن أصنع شيئاً من هذا المشروع"، يسأل بطل بول أوستر نفسه معترفاً بأن مشروعه بعيد الاحتمال، كشأن كل المشاريع المبتكرة، لكنه ينفي عن نفسه الجنون قائلاً: "فما الذي لا تريده المرأة الشابة أكثر من قراءة السيرة الدقيقة لوالدها، حتى وإن كان ذلك الوالد ليس أكثر من عامل في مصنع أو مساعد مدير في مصرف ريفي، وما الذي لا تريده أم أكثر من أن تقرأ حياة ابنها الشرطي الذي قتل أثناء تأدية واجبه وهو في سن الرابعة والثلاثين"، ولكي لا يبدو أنه يستند على أسس غير واقعية، يؤكد لنفسه أن ما سيجعل مشروع شركته ناجحاً مزدهراً هو الحب، ففي كل الأحوال ستظل تلك السيرة مسألة حب، تنبع من "حب الزوجة أو الزوج، الابن أو الابنة، أحد الأبوين، الأخ أو الأخت، فقط الروابط الأقوى".

هؤلاء المحبون الراغبون في تذكر من رحل عن حياتهم، سيأتون إليه بعد مرور ستة أشهر أو عام من وفاة صاحب السيرة، وسيكونون وقتها قد استوعبوا وفاته، لكنهم لن يكونوا قد تغلبوا على حزنهم، وبعد أن عادت حياتهم اليومية إلى طبيعتها من جديد، سيكونوا قد أدركوا أنهم لا يمكن لهم أن يتجاوزوا ذلك الحزن أبداً، وسيرغبون في إعادة الشخص الذي يحبونه إلى الحياة بصورة ما، وحينها سيبذل كل جهد إنساني ليحقق لهم أمنيتهم، ليقوم بإعادة بعث ذلك الشخص بالكلمات، وحين تطبع صفحات سيرته ويتم تغليفها بين دفّتي كتاب، سيحصل أحبابه على شيء يتمسكون به طيلة حياتهم، بل إنه سيبقى بعد رحيلهم، بعد رحيلنا جميعاً.

لم يحقق بطل (حماقات بروكلين) أياً من فكرتيه اللامعتين، متورطاً في ارتكاب حماقات جديدة أنسته حماقاته القديمة، تماماً كما ينسينا الموتى الجدد موتانا القدامى، فنواصل حياتنا مرتكبين فيها المزيد من الحماقات، أو محاولين الهروب من ارتكاب حماقات جديدة، حماقات بعضها نتذكرها، حتى وإن لم نجمعها في كتب، وبعضها يتكفل الآخرون بتذكيرنا بها، وبعضها الآخر يصير نسياً منسياً، مثل ملايين الموتى العاديين.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.