فلتسقط الحكومة

فلتسقط الحكومة

03 أكتوبر 2018
+ الخط -
جلس الدفتردار أمام محمد علي باشا، في رأسه ألف سؤال لا يدري بأيها يبدأ، تجوس عيناه كل خلجات الباشا، يتلمس مدخلًا يدلف منه إلى بغيته، والباشا مشغول عنه أو متشاغل، وفجأة تمتد يد الباشا إلى لحية الدفتردار، في حنو ولطف لم يعهدهما الدفتردار من أمه ولا زوجه! هذه اليد الحانية تنزع شعرة من لحيته وتعود لمكانها، وبعد هنيهة تمتد اليد ذاتها إلى اللحية نفسها وتخطف منها شعرة أخرى.

دارت رأس الدفتردار وزادت هواجسه، وتحير في أمر الباشا؛ فما الذي فعله للتو واللحظة؟ هل هذه طريقة جديدة لرفع الكلفة بين الباشا ورجال دولته؟ هل يستهزئ بي؟ هل..؟ قبل أن يستطرد في حديث الذات، امتدت يد الباشا لتقبض على اللحية كلها.. يا للهول! هل ينتزع الباشا لحيتي؟ إنها ليست ديكورًا، بل هي مثبتة في أدمة جلدي، وقبل أن يسترحم الباشا ويستعفيه من هذا الألم، قال محمد علي الكبير: هكذا تجمع الضرائب؛ أفهمت؟!

أدرك الدفتردار أن جباية الضرائب فن، أن تستأثر الدولة بأموال الشعب المطحون، بشرط أن يأتي ذلك على دفعات؛ فالألم يكون يسيرًا ومقبولًا مقارنة بالتأميم المباشر، وشعرة من اللحية لا تضير صاحبها، أما نزع اللحية دفعة واحدة قد يشوّه الوجه أو يقتل صاحبها. واحدة واحدة يا باشمهندس طارق، حنانيك بالشعب المكلوم؛ فارفع البنزين بعد كيكي، وارفع الشعب بعد حين، لكن بالهداوة يا حبيبي وواحدة واحدة الله يخليك.


كثير من الحكومات أتقنت اللعبة، إلا حكومة واحدة لم تستوعب الدرس، هذه الحكومة يفضل رعاياها أن يتفادوا التحرش بها أو التعامل ولو من بعيد معها. حكومة يلتقي بها الرعايا في إطار ضيق، وفي أوقات محددة للغاية، هم سعداء وإن لم تتزحزح الحكومة عن تسخّطها عليهم، يخرج أحدهم من عمله تعِبًا مرهقًا؛ فلا يفكر أن يعود لمقر الحكومة، لكنه ينطلق إلى المقهى أو الشلة أو أي مكان آخر، وجهه يفيض سعادة وأملا. وحين يستولي عليه النعاس، ولا يجد مفرًا من العودة للبيت، يستبد به الحنق والسخط، ويدخل البيت (شايل طاجن سته)، ويرتدي قناع أبي الغضب.

وما الباعث على كل هذا يا سادة؟ إنها الحكومة الغاشمة، حكومة لم تدرس طريقة محمد علي مع الدفتردار، ولا طريقة الباشمهندس طارق؛ فهي لا تؤمن بالتدرج في إنزال العقاب، بل تستعجل التنكيل بالرعية؛ فتصب على الرجل سيلًا من الأسئلة التي لا تنقطع، وتستجوبه جوابًا لم تعرفه النيابة، وتعصره عصر قطعة ملابس مهترئة. هذه الحكومة لم تدرك أن الرجل له طبيعة مختلفة، ويفكر في أمور لا تعرف من الألوان الأوشن والآزوري الكوبالت؛ فالأزرق يكفيه عناء هذه التفاصيل. وقد يصرخ الرجل في أعماقه، لكنه لا يجرؤ أن يجهر برأيه، صرخة توجز كل معاناته قائلًا: فلتسقط الحكومة! ثم يسحب صرخة فيكتمها في حلقه، وتتقزم صرخته وهو يتذكر ما حل به في تمرده الأخير؛ لقد فقد المكان الذي يبيت فيه.

يعود للبيت ولسانه يلهج بالدعاء أن يجد الحكومة قد غطت في نوم عميق، وما إأن يفتح الباب حتى يلعن الوظيفة ومتاعب الحياة والضغوطات، ثم يحاول أن يتسلل إلى سريره! تراقبه الحكومة في صمت مخيف، ثم تستجوبه استجوابًا مريرًا، وتلح عليه حتى يكاد يتمرد ويعود لحياة الحرية والانطلاق صارخًا: فلتسقط الحكومة، وتردعه نصيحة صديقه الخبير -على ذمته أربع حكومات - يهمس له: (من خاف سلم)؛ فيصيخ السمع ويتمنى - دون أن يرجو - أن يذكرها بنصيحة محمد علي باشا للدفتردار، ويطلب منها في حياء أن تستجوبه واحدة واحدة!