إنسانة عادية (1- 3)

إنسانة عادية (1- 3)

18 أكتوبر 2018
+ الخط -

حين نلتقي، سأريك بطاقتي الشخصية، فبها وحدها ستصدق أن عمري 45 سنة فقط، ولست في الستين من عمري، كما يظن كل من يراني، لأسباب ستعرفها حين تكمل قراءة حكايتي.

أعرف أنني لا أستحق الآن وصف "إنسانة عادية" الذي كرّرت وصف نفسي به في حديثي السابق معك، ربما لأنني لم أكن أطلب من الدنيا والله، غير أن أظل كما كنت في البداية، إنسانة عادية تمر حياتها برتابة وهدوء، كما يحدث لملايين الناس العاديين، لا أقول الذين تخلو حياتهم من المصائب، فقد أصبحت أعرف بالتجربة "إن ما حدّ م الهم خالي"، لكني كنت أتمنى أن أكون من ملايين العاديين، الذين تنزل بهم طيلة حياتهم مصيبة أو مصيبتان بالكثير: مرض خطير يأتي على غفلة وحبذا في نهاية العمر، رحيل أب أو أم بعد عمر طويل وبعد أن أدّيا رسالتيهما على أكمل وجه، حادث طارئ يروِّع ويؤلم لكنه يعبر في نهاية المطاف، أزمة مالية طاحنة تستحكم ثم تُفرج. هذا كل ما كنت أتمناه، أن أظل إنسانة عادية بمصائب عادية.

لكن حتى لا يأخذنا الكلام ونتوه فيه، دعني أبدأ لك حكايتي من أولها.

تربيت وسط عائلة ميسورة الحال، مكونة من أب وأم وأخ وحيد أصغر مني بست سنوات، لا تَخَف على وقتك من الضياع في بحر من الحكايات، فلم يكن في النصف الأول من عمري ما يستحق أن أتوقف عنده، سوى أخي الأصغر الذي كان أبرز ما في طفولتي وصباي وشبابي،

ليس لأن صلتي به كانت وثيقة في طفولتنا، بل لأن الله حباه بكل الصفات التي لم أولد بها، فهو جميل الوجه، ذكي، خفيف الظل، نبيه، يأخذ بقلبك حين يتحدث، ولذلك كان كل ما يفعله أو يقوله، يذكِّر كل من حولنا، بأنني خُلِقت على عكس أخي تماماً: سمراء الوجه، محدودة الجمال ويقولون أنني كنت محدودة الذكاء أيضاً، أضف إلى ذلك ابتلائي منذ الصغر بضعف شديد في السمع في أذني اليسرى، وهو ما جعلني أكمل تعليمي بالكاد، لأحصل على مؤهل متوسط، عملت به في وظيفة حكومية لم يكن لها قيمة، سوى أنها كانت تساعدني على الهروب من ملل زواجي، الذي كان يفترض أن ينتهي مبكراً، لولا أن رزقني الله بابني "الحيلة"، الذي تحملت من أجله زيجة تعيسة مع أحد زملائي في الوظيفة، كان زواجي بكل المقاييس خطئاً لم يكن بوسعي تجنبه، لأسباب لا أظنها تخفى عليك، فأنت "من هنا وعارف"، لكنني على الأقل بعد أن أدركت أن اختياري لزوجي كان خطئاً، حرصت على ألا أكرر خطأ إنجابي منه، وساعدتني صحتي "التعبانة" على ذلك.

لم يلزمني وقت طويل لأكتشف أن زوجي دخل بيتنا من الأساس على طَمَع، كان ريفياً شديد الطموح، غرّه مظهر بيتنا، حين زارني يوماً مع بعض زملاء العمل، بعد أن أصابتني وعكة صحية غيّبتني عن العمل، فظن أننا يا ما هنا يا ما هناك، ولم يدرِ أن حسن تدبير أمي وذوقها الرفيع وتحكمها الشديد في أبي ومصاريفه، جعلها قادرة على وضع أسرتنا في مكان أكبر مما كنا عليه بالفعل.

في البداية لم يرتح أبي لزوجي، ربما لأنه كطماع قديم شم رائحة طمع زوجي، لكنني تمسكت به، لأنه ببساطة كان العريس الوحيد الذي تقدم لي. تضامنت أمي معي بعد أن أجاد زوجي الاستحواذ على قلبها بلسانه، الذي اكتشفت أن حلاوته تخفي خلفها قسوة ودناءة أجارك الله منهما.

لم يكن زوجي محتاجاً للمزيد من التصنع والمداهنة، حين اكتشف أن أبي لن يشاركه في ماله، حتى لو كان أخي الذي من صلبه، فقرّر تغيير طريقه المرتجى إلى الثراء السريع، ليمر بدولة خليجية، عاش فيها سنوات طويلة بعيداً عني وعن ابنه، لا نراه إلا أياماً من كل صيف، مكتفياً بما يرسله لابنه من هدايا تافهة، في حين كنت أسد من جيبي عجز ما يرسله عن تلبية مصاريفنا التي يضاعفها غلاء المعيشة، وحين رأيت بالصدفة في واحدة من أواخر أجازاته التي قضاها معي، صورة لحوالة مالية ضخمة أرسلها إلى أخيه في القرية، وواجهته بالتساؤل عن سر ذلك التفريق البشع في المعاملة، وعما كنت قد سمعته من قبل في أواخر مكالمة بينه وبين أخيه، عن قطعة أرض يفكر في شرائها في قريته، استفزني إنكاره لكل ما سمعته وشاهدته، وإصراره على أنني أتوهم وجود صورة الحوالة وتفاصيل المكالمة، مؤكداً أنه لو كان ما أقوله صحيحاً لوجب عليه أن يطلقني لأنني سأكون حينها "ست غير محترمة" تتصنّت على زوجها وتفتش في حاجاته دون إذن.

كانت تلك من المرات النادرة التي يراني فيها غاضبة، مع أن غضبي كان منضبطاً، حيث اكتفيت بمواجهته بما قمت بإنفاقه خلال السنوات الماضية على ابنه والبيت، كأنني مطلقة أو أرملة، وقلت له إنني إذا كنت قد تنازلت عن أهمية أن يكون في حياتي رجل أعيش معه ويملأ حياتي، وتغاضيت عن حقوقي الزوجية واستعوضت ربنا فيها، حتى حين يأتي في الأجازة

فيتحجج بضيق الوقت وكثرة المشاوير، فإنني لن أتنازل عن حقوق ابني المالية مهما حدث، لأفاجأ به وقد مد يده التي تستاهل قطعها عليّ لأول مرة، وأخذ يتهمني بالنقص وقلة الأصل، لأنني أعايره بما أصابه من أمراض بسبب الغربة التي أكلت عمره من أجلي وأجل ابني، لكنه لم يُطِل كثيراً في فقرة المسكنة التي كان يمكن أن تشعرني بالخجل مما قلته له، فأنا عبيطة في نهاية المطاف ولا أحب المواجهات العنيفة، بل انتقل إلى فقرته المفضلة التي يذُمّ فيها وجهي العَكِر الذي يسد النِفس عن الحياة، ويلعن جسمي "المِكَعبر" الذي يفتقد إلى أبسط معالم الأنوثة التي يمكن أن تساعده على التفكير في النوم معي، حالفاً أنني لن أنول مليماً من شقا عمره الذي سيكتبه كله باسم ابنه، لأموت بحسرتي وطمعي، مثل أهلي الذين طلعت لهم بخيلة نتنة أموت على القِرش.

لم يوقف البالوعة التي ضربت من فمه، إلا صوت قدوم ابني إلى الشقة، لأتحلى على الفور بضبط النفس، وأقرر تجاهل المصيبة التي حدثت، لكي لا أفسد على ابني فرحته بوعد أبيه له بالذهاب إلى السينما، خاصة أن العلاقات بينهما كانت قد شهدت توتراً حاداً قبل أيام، حين فوجئ ابني بوصلة سخرية حادة صبها أبوه عليه، لأنه فاتحه برغبته في دخول الجامعة الأمريكية أو أي جامعة خاصة لدراسة هندسة الكمبيوتر، بعد أن خذله مجموعه في الثانوية العامة لعامين على التوالي، قال له أبوه بغلظته المعهوده إنه يفضل إلحاقه بمعهد فني صناعي، ليكسب صنعة تفيده في مستقبله، خاصة وقد أثبت مرتين على التوالي أن "مخه تخين وليس له في التعليم"، ولولا أنني قمت ساعتها بلَمّ هدومي لأترك له البيت إلى الأبد، لما كان قد صالح ابنه ووعده بالتفكير في طلبه بجدية، وأنه سيحرص على أن ينال أفضل فرصة تعليم ممكنة، وكانت فرحتي بفرحة ابني بتغير موقف والده، هي التي جعلتني أتغافل عن ضرورة الحذر من تغير مفاجئ كهذا، وكأن حذري كان سينجيني من قدري.

كان أخي قادماً لزيارتنا بالصدفة في اليوم التالي لخناقتنا، وحين رأى أثر كف زوجي على خدي، أشعل البيت ناراً. يعني، لم أكن أتوقع أن يكون أول مسدس أراه في حياتي، مصوباً إلى رأس زوجي الذي وجد نفسه مضطراً للانحناء على قدمي لتقبيلها، لكي يوافق أخي على إبعاد مسدسه عن رأسه، دون أن تفلح توسلاتي الباكية وصرخات ابني المذعور في تهدئته وإصراره على أن يقبل زوجي قدمي على الفور.

لم يكن بين أخي وزوجي عَمَارٌ منذ أن رأيا بعضهما، كان زوجي يراه شاباً مدللاً لا يستحق الحياة الناعمة التي ولد فيها، وكان أخي الذي اكتوى بنار بُخل أبي، يكره بُخل زوجي وتقتيره الدائم علينا، ويحرضني دائماً على الوقوف في وجهه، أو السماح له لكي يتصدّر من أجلي، لذلك رأى فيما حدث فرصة لإفراغ غِلّه، ربما لن تتكرر بسبب سفر زوجي المتكرر، ولم يكن يعلم الثمن الذي سأدفعه بسبب ذلك الموقف، الذي لست متأكدة أنه انتصر فيه لي، بقدر ما انتصر فيه لنفسه، ولفخره الطفولي بمسدسه الذي ساعده أصدقاؤه الضباط على ترخيصه، بوصفه رجل أعمال يحتاج إلى تأمين نفسه، مع أن عمله في إحدى شركات التسويق العقاري الكبرى، حيث التعامل بالشيكات والتحويلات البنكية، لا يجعله محتاجاً إلى حمل مسدس ولا يحزنون.

كانت زيارات أخي لمنزلي، قد تكررت خلال العامين الذين سبقا تلك الواقعة اللعينة، ولم يكن وراءها حرص عاطفي محمود على صلة رحمه كما ظن أبي، أو رغبة في تقضية الوقت مع ابن أخته الذي أيقظ فيه مشاعر الأبوة كما ادعى، فكل ما في الأمر أنني بعد وفاة والدتي متأثرة بالمرض الخبيث، فوجئت وفوجئ الجميع بأنها تركت لي في وصيتها، شقة كبيرة كانت قد ورثتها عن والدها، تقع في أحد شوارع حدائق القبة، كما تركت لي مبلغاً من المال، وتركت أكثر منه لأخي، وفوجئت أنها حرصت قبل وفاتها في سرية تامة على تغيير عقد ملكية الشقة وكتابته باسمي، لكي تضمن ألا ينازعني فيها أحد، كما حرصت على توثيق وصيتها لدى محام من أقاربها، ربما لأنها تأثرت بحسن رعايتي لها في أيام مرضها التي طالت، ورأت فيها يا عيني بهدلة لم تكن على البال ولا الخاطر، وربما لم يكن في تلك الأيام من خير، سوى أنها قربتني منها بشكل لم يحدث طيلة عمري، ويشهد الله أنني كنت أخدمها بإخلاص دون أن أنتظر منها شيئاً، لسبب بسيط هو أنني كنت كأبي وأخي نجهل كل ما كانت تملكه أمي، لأنها إجادت ببراعة مدهشة إخفاءه عن "إيدين أبي الطايلة".

بالطبع، لم يكن ما تركته أمي لي ولأخي مفاجأة سارة لأبي، الذي لم يحتج أكثر من يومين بعد رحيلها، ليبدأ في الزنّ على أدمغتنا، بالحديث عن ماله وشقا عمره، الذي قامت المرحومة عبر السنين بالتدكين منه دون إذنه، فأعطت في النهاية ما لا تملكه لمن لا يستحق، معتبراً أن في رضانا بذلك ظلماً لا يرضي ربنا، ومؤكداً أنه لن ينتظر صحوة ضميرنا لتصحيح ذلك الخطأ، بل سيسلك كل السبل المتاحة لرد الحق إلى صاحبه، فور أن ينقضي على رحيلها أربعون يوماً، ليرى قبل ذلك الموعد من أخي وجهاً لم يكن يتصور وجوده، فقد كان متعوداً منه في كافة خناقاته معه، على الصمت والتطنيش والاحتماء بأمنا التي كان يقول لها دائماً أنها أفسدت أخلاق أخي وخيبت أمله، وهو ما لم يعد أبي لتكراره، حين فوجئ بأخي وقد جذبه من تلابيب جلابيته، وهدده بالرمي من الدور الثامن، لو سمعه يجيئ بسيرة أمه أو يتحدث عن حقه في ما تركته لنا.

ولأن أبي ظن أن ما يقوله أخي، ليس سوى تهديد فارغ من "عيِّل قليل الرباية"، ولأن صحته لم تعد تساعده على ضرب أخي بالقلم أو حتى حدفه بشبشب أو ما شابه، فقد كان من الطبيعي أن يلجأ إلى التصعيد بلعن سنسفيل أمي وخِلفتها الوِسخة، فيجد نفسه بعد لحظات متدلياً من البلكونة رأساً على عقب، معلقاً في الهواء المُطل على أسفلت الشارع، لا يحميه من السقوط فيه، إلا قبضتا ابنه الذي أخذ يصرخ فيه صرخات هستيرية أفزعت الجميع، ولم يهدئها قليلاً إلا عويل أبي الذي لم يستنجد بأحد، بل أخذ يطالب أخي بالإسراع في رميه ليخلص من حياته، في مشهد دراماتيكي، لا زلت لا أسامح نفسي، كلما أتذكر أنني ابتهجت برؤيته للحظات، قبل أن أهب محاولة بحذر إنقاذ أبي من حمقة أخي التي لم أكن قد رأيت مثلها من قبل، ولذلك كنت أدرك خطورتها حين تكررت مع زوجي بعد ذلك.

كنت متأكدة أن زوجي كان سيطلب أجازة عارضة فور علمه بتلك التطورات المالية المفاجئة، حين يعود لأداء واجب العزاء، وبدأت أفكر فيما يجب علي فعله، لأحمي تلك الثروة التي هبطت عليّ من حيث لا أحتسب، لتظل خالصة لابني في المستقبل، لكن زوجي وفّر علي كل ذلك بنذالته المتأصلة التي جعلته يكتفي بمكالمة روتينية منحطة يعزينا فيها من طراطيف لسانه، مفسراً عدم نزوله لأداء الواجب، بخوفه من غضب الكفيل الذي لا يهمه موت أم ولا رحيل حماة، ولذلك لم أخبره في كل المكالمات التالية بأي مما حدث، لأستمتع في أجازته التالية بملامح وجهه المذهولة ثم المحتقنة ثم المتميزة غيظاً ثم المنفجرة غضباً، وأنا أحكي له عن استجابتي لاقتراحات أخي بالدخول معه بما ورثته عن أمي من مال، وبما سبق أن ادخرته، للمساهمة في شراء قطعة أرض كبيرة على أطراف القاهرة، خاصة أن أخي علم بفضل صداقاته وعلاقاته، أن شركة عربية تحضر لإنشاء مجمع سكني فاخر في تلك المنطقة، وحينها سيكون مكسبنا من بيع الأرض للشركة، أضمن استثمار يمكن الحصول عليه في تلك الفترة من أوائل التسعينات التي كان بناء المجمعات السكنية الفاخرة فيها أحدث صرعات الاستثمار وأضمنها.

وعلى عكس ما اتهمني به زوجي، لم أكن بلهاء لكي أطاوع أخي في مشروع قد لا يجيئ بهمِّه، فقد كان أخي شاطراً في شغلته وخبيراً بزواريقها، ولذلك رأيت في ما اقترحه فرصة لضمان مستقبل ابني، الذي لا أريده أن يعتمد على أب بخيل، كما حدث لي ولأخي من قبل، ولو كنت عبيطة كما قال، لكنت وافقت على عروض أخي المتكررة ببيع شقة حدائق القبة، لكي أقوم بتكبير المبلغ الذي سأساهم به معه، بل إنني رفضت بعد ذلك عرضه بتأجيرها، حالفة له على المصحف أن أمنا عليها ألف رحمة ونور زارتني في المنام، وحلفتني بدورها على

المصحف ألا أفرط في هذه الشقة أبداً، وألا أدخل إليها غريباً أياً من كان، وأن أوصي ابني من بعدي بعدم التفريط فيها، لأصوم بعدها ثلاثة أيام تكفيراً عن القسم بما لم يحدث، وإن كنت لم أستبعد أن يحدث بالفعل، لو كنت قد طاوعت أخي، والحمد لله أنني لم أفعل.

لم أدرِ بعدها، هل أهنئ نفسي، لأنها باتت عاجنة خابزة لوطاوة زوجي ونذالته، أم أبكي على حظها العثر لأنها لم يُكتب لها ولو لمرة أن تفرح بصحة افتراض الخير والجدعنة فيه. يعني، كنت أظن أنني وجهت له رسالة شديدة الوضوح، حين أسهبت في رواية رفضي المتكرر لمحاولات أخي إقناعي ببيع أو تأجير شقة حدائق القبة، ومع ذلك لعبت الشكوك في عبّي، حين وجدته يثني على ما فعلته، ويوافقني على أن من الحكمة ترك الشقة كما هي دون تأجير، لأن المستأجرين إذا سكنوا شقة أفسدوها، ودون بيع، لأن أسعار السوق متقلبة لا تعرف لها رأساً من رجلين، وأن ابننا سيشكرني على ذلك بعد عمر طويل، حين أتركها له ليتصرف فيها كما يشاء، أو يتركها بدوره لأبنائه.

وربما لو لم يكن قد احتضنني بحرارة غير مسبوقة، وطبطب على ظهري مراراً، وباس رأسي أكثر من مرة بعد ما قاله، لما كنت قد شككت في نيته، ولما كان أول ما أفعله في اليوم التالي، أن أذهب إلى الشقة وأقوم بتغيير كالون بابها، وأوصي أقارب أمي المقيمين في العمارة، على أن يأخذوا بالهم من أي حركة مريبة تحدث فيها، ليأخذ زوجي والسمسار الذي اصطحبه إليها بعد يومين علقة ساخنة، حين حاولا كسر باب الشقة ليقوم السمسار بتصويرها، والتفكير في زبون مناسب لها، وربما لو كان النذل قد أتعب خاطره بحضور جنازة أمي وعزائها، أو كلّف نفسه وجيبه بعمل فرح كبير ولائق لي، لكان أحد أقاربها قد رآه وعرفه، فصدّق حلفاناته لهم بأنه زوجي وأبو ابني، لكنه زاد الطين بلة، حين قال لهم إنه موفد مني للإعداد لبيع الشقة التي تحزنني لأنها تذكرني بأمي، في حين كنت قد قلت لقريب أمي الساكن في الدور الأعلى، إنني أفكر في الانتقال للإقامة في الشقة فترة أطول، لأني أحس بروح أمي ترفرف فيها، وأنني أرتاح نفسياً فيها كما لم أرتح من قبل في أي بيت سكنته.

بالطبع أقسم لي اللعين أن ما حدث كان صدفة بحتة، وأنه حاول الاتصال بي على هاتف البيت لاستئذاني، بل وحلف على المصحف أنه اتصل بي على تليفون المكتب، فأبلغوه أني ذهبت إلى مأمورية مستعجلة، ولم يهدأ له بال حتى اتصلت بزميلتي في المكتب لأسمع منها تأكيداً على اتصاله، ومع أنني أقسمت له أن الموضوع انتهى، إلا أن ما حدث قادني للشك فيه أكثر، فقمت لأول مرة بتفتيش جيوبه وأدراج مكتبه، لأجد فيها ذلك الإيصال الذي قاد إلى الخناقة التي أفضت إلى مد يده عليّ، وتصويب المسدس إلى رأسه، ومع أن المسدس عاد إلى جراب أخي دون أن تنطلق منه رصاصة، لكن مجرد خروجه من جرابه، أطلق رصاصة الرحمة على الأكذوبة التي عشت فيها أكثر من عشرين سنة، لكن زواجنا التعيس لم يمت لوحده، بل أخذ معه روحي وابني وحياتي التي برغم بؤسها، كانت عادية.

....

نكمل الأسبوع القادم بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.