هل تعست العجلة؟

هل تعست العجلة؟

14 أكتوبر 2018
+ الخط -
يختلف مقياس العجلة باختلاف البشر؛ فلكل إنسان تعريفه الخاص للتسرع، كما أن لكل منهم مبرراته إن تسرع، وله من الأعذار ما لا حصر له إن آثر التريث. وهذا فِنْدٌ مولى عائشة بنت سعد بن أبي وقاص، أرسلته يأتيها بنار؛ فوجد قومًا يخرجون إلى مصر، فخرج معهم وأقام بها سنة، ثم قَدِمَ فأخذ نارًا وجاء يغدو؛ فعثر وتبدد الجمر فقال: تعست العجلة.

واليوم يرسل الوالد ابنه لينجز له أمرًا؛ فلا ينتظر الوالد عودة ولده وإنما يستعجله بالاتصالات، فإن لم يجب أرسل له رسالة نصية أو رسالة واتس آب، وويلٌ له إن رأى الرسالة ولم يرد. لن تجد اليوم والدًا ينتظر انتظار عائشة بنت سعد، ولن تجد اليوم فِنْد في بيتٍ من بيوتنا، اللهم إلا أن يكون موظفًا يعمل بالإكراه؛ فلا ينجز للناس مهمة ولا ينفك لسانه يذكرهم بفضل الصبر وجزاء الصابرين.

لكنك إن وقفت مع إشكالية العجلة، وازدواجية الصبر/ التسرع؛ فإنك تجد من المفارقات الكثير، ومثال على ذلك أن يأمر المرء غيره بالصبر، ولا يطيق أن يصبر على تأخر مطلبه. ربما يفسر لنا ذلك قول العربي القديم (الشبعان يفت للجائع فتًا بطيئا)؛ فهو لا يشعر بمرارة الحاجة ولا ظروف الجائع، ولذلك يلبس مسوح القديسين ويلوك كلمات الصبر؛ فالشبعان يأمر الجائع بالصبر، والجائع يتلمس العجلة في سد خلته، ويكونا معا قضيبي سكة حديد يتوازيان ولا يتقاطعان.


خرج فند ليقبس النار ويعود، مهمة ليست بالصعبة ولا المستحيلة، لكن على قلبه مراوح وليس مشغول البال، وعائشة تحتاج النار لطهي الطعام وتسيير أمور بيتها، ويسافر فند إلى مصر عامًا بطوله ويعود، كما تقدم لأحدهم نسخة من سيرتك الذاتية، ويعقد الحياء لسانك عن الزن على دماغه؛ فتحدثه بعد فترة ليقول لك بكل أريحية وبرود: ارسل لي نسخة محدثة من سيرتك الذاتية! فتضرب كفًا بكف وأنت تردد في نفسك: نسخة محدثة.. من ماذا؟ من سيرتي الذاتية! أنا عاطل وأبحث عن عمل، وقد أرسلتها لك بالفعل غير مرة؛ فهل حصلت على نوبل لأضمِّنها سيرتي الذاتية؟

ترى نفسك في موضع عائشة، ربما تراكمت عليك الديون، وانكسرت عليك أجرة البيت، والجوع يعتصر أفئدة صغارك، وأنت صابر محتسب، تطرق الأبواب وتأخذ بالأسباب، تنتظر جمرة تذيب بها جليد الحياة من حولك، ومن يفترض به أن يأتيك بها لا يكترث؛ فإن قلت له: أنت بقى لك سنة بتلعب في مصر يا فند! يرد عليك بعد أن بدد أملك في الجمرة، ويتحدث بتأثر وفلسفة: تعست العجلة!

ولن يعدم فند أن يتفلسف للمرة الثانية، ويطلب من عائشة أن تتقن عملها، وأن تتذرع بالصبر؛ فالماهرة تغزل برجل حمار أو رجل معزة أو رجل كنغر، المهم أنها لا تطالب فند بشيء. وقبل سنوات أعاب أحدهم على ديستويفسكي أنه لا يكتب بمزاج عالٍ؛ فرد عليه ديستويفسكي: لو كنت أتلقى راتبًا مثل إيفان تورجينيف؛ لكتبت بشكلٍ أفضل، وكيف أكتب وعقلي مشغول بخواء بطني.

وقبل ديستويفسكي، سمع أحمد بن طولون إمام أحد المساجد يكثر اللحن في القراءة؛ فأرسل بعض رجاله ومعه صرة من المال، وأوصاه أن يدفعها للإمام وقال: (إن لحنه في قصار السور يوحي بأن عقله مشغول)، ومن قبلهما أرسل زياد في طلب رجل حكيم؛ فلما مَثُلَ بين يديه بادره زياد بقوله: يا هذا! إن كنت في حاجة لطعام أو لحمامٍ فسل؛ فإنه لا رأي لحاقنٍ ولا لجائع.

تمنطق أحدهم بلسان فند، وقد لمح أبا العيناء يسرع في طلب حاجة له؛ فقال: يا أبا العيناء! لا تعجل؛ فإن العجلة من الشيطان. فأجابه أبو العيناء: كذبت! إن كانت كما قلت، ما قال موسى لربنا (وعجلت إليك ربي لترضى).