البشر الخارقون

البشر الخارقون

14 أكتوبر 2018
+ الخط -
عندما نسمع بمصطلح القدرات الخارقة تكون صور الأفلام الهوليوودية أول ما يمر بخواطرنا. في الدقيقة التالية قد نفكر بالرجال والنساء النادرين الذين يملكون قدرات جسدية تفوق قدراتنا نحن البشر العاديين، ولكن من الصعوبة بمكان أن يخطر في أذهاننا صورة امرأة تنسق أزهارها أو رجل يمارس مهامه المكتبية عندما نفكر بمصطلح الخارق، كما كان من الصعب جداً أن يخطر على بالي قبل بضع سنوات أنني سوف أجلس يوماً أمام شاشة حاسوبي لكتابة مقال عن التأمل، أنا الفتاة المنطقية التي تسعى دائماً لإيجاد تفسيرات موضوعية لأي ظاهرة، ولا ترضى عن العلم بديلاً لشرح الواقع.

لسنوات كنت أنظر إلى مواضيع التنمية البشرية أو الرياضات الروحانية كاليوغا والتأمل بعين الشك والرفض، وغالباً ما كنت أتهمها بالمبالغة وبيع الوهم والاتجار بعواطف البشر، واستغلال رغبتهم في تحقيق السلام الداخلي والتخلص من الأزمات. لا تزال نظرتي كما هي في ما يتعلق بالتنمية البشرية، أما عن التأمل ورياضة اليوغا فلا بد من اعتراف على الملأ بقبول الهزيمة، هزيمة التفكير المنطقي أمام غيبية وتعقيد النفس البشرية.

عندما طلبت من صديقتي بعض النصائح للتغلب على موجة البرد الحادة التي أصابتني في أحد أيام الشتاء، لم أعتقد أن تلك النصائح سوف تشتمل على بند التأمل، ولم أعتقد أيضاً بأنني على درجة عالية من اليأس لكي أجرب هذه النصيحة الغريبة التي لا تتوافق مع أفكاري، والتي لم أعرف أصلاً كيف تتم ممارستها حقاً، فطوال سنوات التشكيك لم أحاول جهدي للبحث والقراءة في هذا الموضوع.


وحتى بعد قبول النصيحة لم أسع للاطلاع على أي معلومات ولو عامة عن التأمل، وكأنني أردت المسارعة بالتنفيذ لكي أتخلص من خطوة وأنتقل إلى غيرها، لذا قمت بالمسارعة في تحميل تطبيق مبسط يقدم بعض الجلسات المجانية للتأمل، وبعد ضبط توقيت الجلسة بثلاث دقائق بدأت باتباع الخطوات التي كان يلقيها المدرب بصوته الهادئ.

بعد انتهاء الدقائق الثلاث، جاء بعدها دقائق ثلاث أخرى، ثم إعادة ضبط للجلسة بمقدار عشر دقائق، ثم خمس عشرة دقيقة، إلى أن وجدت نفسي وقد أتممت ساعة كاملة من التأمل خلال أوقات متفرقة من النهار، فقد كنت أعود إلى التطبيق كلما شعرت بضيق في التنفس، أو كلما عاودني السعال أو ألم الرأس وغيرها من الأعراض المرضية. لم أستوعب كيف لعدة دقائق من التنفس المنتظم وإغلاق العينين والاسترخاء أن تعمل كوسيلة علاجية ملموسة النتائج، حتى عندما شعرت بارتفاع درجة حرارتي، ونظراً لعدم امتلاكي للدواء الخافض للحرارة كان للتأمل الدور الرئيس في ضبط حرارة جسمي وإعادتها إلى معدلها الطبيعي.

كان لهذه التجربة أعظم الأثر في تغيير نظرتي لا للتأمل فقط، بل نظرتي للنفس البشرية وجسم الإنسان وقدرة العقل البشري على التحكم بخريطة الجسم العضوية والعاطفية، وتغيير ظروفها أو خلق ظروف جديدة ملائمة تساعد على تحقيق التوازن والانسجام داخل الجسد نفسه، وفي ما بينه وبين محيطه بشكل يضمن تحقيق مستوى عالٍ من الرفاهية الذاتية.

كما جعلتني هذه التجربة أفكر: إذا كنت أنا التي أمارس التأمل لمدة لا تتجاوز خمس عشرة دقيقة للجلسة الواحدة قد بدأت بلمس نتائج فعالة، فكيف بمن يمارسون جلسات تتجاوز الساعات خلال النهار؟

هنا أيضاً أدت صديقتي دوراً بارزاً في هذا المشهد، فقد اقترحت عليّ مشاهدة مقطع فيديو يحكي عن دراسة أجراها الباحث وعالم الأعصاب ريتشارد دافيدسون من جامعة ويسكنسون، على مجموعة من الأشخاص الذين يمارسون التأمل على مستوى عالٍ. إذ توصل الباحث بعد سلسلة طويلة من الفحوص التقنية المتقدمة والاختبارات والصور، أن الموجات الدماغية الخاصة بهؤلاء المتأملين المحترفين تختلف تماماً وبدرجة كبيرة عن الأشخاص الذي لا يمارسون التأمل.

أما عن الاكتشاف الأكثر إدهاشاً في هذه الدراسة فقد جاء مما يطلق عليها اسم موجة غاما، التي تنبعث لفترات قصيرة جداً في دماغ كل إنسان عندما يتمكن من حل مشكلة معقدة بعد فترة من التفكير، فلا تتجاوز مدة انبعاث هذه الموجة لدينا نصف الثانية، ولكن المثير للدهشة لدى المتأملين المحترفين هو ارتفاع معدل موجة الغاما وقوتها في أدمغتهم لفترات طويلة خلال النهار وبغض النظر عما يمارسونه من أنشطة، فلم يتم قياسها لديهم أثناء جلسات التأمل فقط بل كانت بارزة ونشطة خلال روتينهم اليومي وأنشطتهم الاعتيادية.

كما أظهرت الاختبارات قدرة عقول هؤلاء المتأملين على تحفيز موجة الغاما بنسبة 700-800% أثناء ممارستهم للتأمل الذي يستهدف المراكز العاطفية، وهو أمر لم يشهده العلم من قبل، ما جعل عالم الأعصاب المخضرم وزملاءه في حيرة من أمرهم أمام هذا الكشف الملموس، ولكن صعب التفسير إذا ما حاولوا النظر إليه من عدسة العلم المنطقية، التي أثبتت مرة أخرى عجزها أمام متاهة النفس البشرية وغيبية وتعقيد العقل البشري، الذي لن نتمكن يوماً من اكتشاف جميع خفاياه.

في نهاية المطاف، أن تكون خارقاً قد يعني أن تكون ملتحماً مع ذاتك، مرتبطاً مع الكون من حولك، واعياً لتلك الصلة الخفية بينك وبين جميع المخلوقات الحية والجامدة، مقدساً للحياة والاستقرار، مؤمناً بالتناسق والانسجام، وبأن الحياة تفوق في شموليتها كل ما يتم تعزيزه في وعينا الجمعي من مفاهيم مادية جافّة هدفها الوحيد قتل الروح فينا وتحويلنا إلى مجرد آلات.
BD819782-9C47-4D0F-9BFC-A9D49732765A
نجوى أبو خاطر

حاصلة على شهادة البكالوريوس في الدراسات الإنكليزية وأعمل حاليا في مجال الترجمة. بدأت حياتي المهنية كناشطة شبابية ومتطوعة في مؤسسات ثقافية واجتماعية ثم عملت في مجال حقوق المرأة مع استمراريتي في مجال التطوع خاصة فيما يتعلق بدور الشباب في المجتمع.