الوداع الأخير...

الوداع الأخير...

11 أكتوبر 2018
+ الخط -
ودعتنا مبكرةً بايماءتها الماسيّة المعروفة. كانت لفتةً كريمة تدل على أنها في طريق العودة إلى حضن بلدها، حيث الرَّقة المدينة التي ولدت وعاشت فيها طفولتها وبعض شبابها. ستكون نهاية الحب الذي أينع، واخضر يوماً... وها هو يذوي متعفناً. ودعتنا إلى حيث موطنها، تاركة وراءها أحلامها وصورها الجميلة.

تحولت تلك الصور الرائعة المبهرة إلى مجرد لقطة حوارية لم تكتمل! سقطت من تاريخ الزمن الذي يسبق الجياد الأصيلة، بل تعداه، وها هو يرحل مودعاً تاركاً عناوين كثيرة، طغت بمحتواها على علاقة استمرّت، وإن كانت قصيرة، إلا أنها أينعت ثماراً ناضجة.

علاقة، فيها الكثير من العفوية والروح المرحة، وشابتها عناوين كبيرة، لم تكن تعرفُ يوماً سوى الصدق طريقاً، ومشروعاً يؤدي إلى نهاية مفرحة، إلا أنها ظلّت مشروطة!

تلك العناوين، كانت هي آخر ما تلمّسه منها وبأناقتها، وإحساسها الذي ترك معه آهات ونماذج أخرى لأمثال هذه العاشقة التي ودعتنا أخيراً، وبدون استئذان، بعدما ملأت علينا دنيانا، بأدبها وتواضعها الجمّ.


كان سفرها المفاجئ إلى حيث وطنها، فيه الكثير من الشوق والحنين، وإن كان يعلم في سريرة ذاته، أنَّ قلبها، وبدقّاته المتسارعة، وكلماتها الموحية إلى نداءات سماوية، على أنها لازمته لفترة، وكان هو من تبحث عنه، بين الركام!

وبعدما التقت حبيبها، تساءلت كثيراً عن ماهيته، وفاجأتها الصدمة، أنه ما زال مرتبطاً بزوجة، وإن اختارها في يوم. كان الاختيار يختلف في أسلوبه، وطريقته عما هو عليه اليوم، وتحولت تلك العلاقة إلى جبلّة باهتة، ونادراً ما كانت أمثال هذه العلاقات وجدانية وصادقة، وفيها نبرات حب ترجم إلى واقع، وتتويجها سيكون محكوماً بالزواج.

وفي أحد المساءات، وقبل أن تغادر برجها العاجي هناك، تناهى إلى سمعه أخبارها، وها هو اليوم أكثر من يشجعها على هذا الخيار.

خيار فيه انفتاح وتفاهم وانضباط، وتجاوز للماضي المؤسي بكل صوره. وغيابها عنه، بعدما سجل اعترافاته بأناقتها وذوقها، ومدى جاذبيتها، وأنوثتها الطاغية التي هيمنت على كيانه، وعكست مجمل الأحوال التي كانت تشغل ذهنه، وتؤلّب المواجع في قلبه، وتفتحت المسامّ معلنةً، وبكل تحدٍ، قناعته بها والزواج هو الحل الأسلم لحسم هذه العلاقة الوجدانية النظيفة، التي يجدُ فيها الاعتراف بأنها صوت من لا صوت له، ورؤيته لهذه الإنسانة الهادئة بطباعها، الرقيقة في ألفاظها، التي لا تزال تنهل من ماء الفرات النمير، وتغتسل منه، في صيف مدينة جادت بالعطاء.. ولتغترف من الماء بكلتا يديها ولتقدمه إلى حبيبها في يوم تعارفهما، في يوم اللقاء، هناك..

لم تكن في موقف تحسد عليه، فقد تخلّت عن كل احتمالاتها، وودعت المدينة التي عاشت فيها غربتها، برغم جمالها، ودقة معالمها، ناهيك عن استقبالها الزوار من أنحاء العالم، والتمتّع بها، والتحرك في زواياها، وفي أسواقها وشوارعها ومقاهيها ومطاعمها وأبنيتها الشاهقة، وأبراجها العالية الضخمة، وفنادقها الفارهة.

في هذا المكان قضت أيامها الطويلة، إلا أن عشق "الرقة" المدينة التي احتضنتها يوماً، وعاشت فيها أيام الطفولة والصبا، ظل محفوراً في وجدانها. وهي التي درست في معاهدها وجامعاتها، وحصلت على أعلى الدرجات العلمية، وتفوقت، بامتياز، ولكنها في "رقتها" الحبيبة، وبرغم المأساة التي عانتها، والتحول الكبير الذي شهدته في أيامها الأخيرة، تركت بهاء المدينة الكبيرة الغريبة، وقررت الرحيل إلى حيث مسقط رأسها.

وظل حنينها يدغدغ مشاعرها في منامها، وفي صحوتها، وفي جلساتها، وفي إطلالتها من أبراج المدينة التي حطّت بها رحالها، وشوقها إلى الأماكن التي كانت تسجل فيها ذكريات الطفولة، وأيام الصبا.

وها هي تثير في قلبه مواجع الغربة التي تعاني، ولا سيما أنه عايشها، وأخيراً همّت بالرحيل، والشوق يطاردها. يذكرها بأسواق مدينتها، ولياليها المقمِرة، وشوارعها الموحلة، وجسرها القديم، وشعبها الطيّب البسيط... والشوق إلى صديقاتها ومدرستها، وتراب مدينتها الذي يظفّر وجنتيها، ويخدشهما.

وفي رحيلها، بعد انقضاء الأشهر على فترة الإقامة، وانقطاع الشوق، والانبهار الذي شهدته خلال زيارتها، كانت تقول وبكل عفوية: إن مدينة الرقة، فيها ترعرت، وفيها سأقضي بقية عمري، ولا يمكن أن أتخلى عنها، أو أبيعها بكنوز الدنيا كلّها.

أنا سعيد بها، وأعشق كل ما فيها، كعشقي لمحبوبي، وإن تركته، هو الآخر، يُعاني مرارة الحرمان والشوق والغربة، إلا أنه وعدني بأنه سيعيش في مدينتنا التي تترع رقةً وعذوبةً وحناناً وطيباً بأهلها. يكفي أننا نظل نحبها وتحبنا، ونعشق ما فيها.
6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.