المعلمة زغردت في غرفة الإدارة

المعلمة زغردت في غرفة الإدارة

10 أكتوبر 2018
+ الخط -
الدكتور الظريف "مجاهد" كان يُعْرَفُ بلقب (أبو المفاجآت)، ففي ذات يوم فاجأ زبائنه بتعيين الفتى الأهبل "سحلول" بصفة ممرض، وألبسه صدرية بيضاء وعَلَّقَ له في رقبته سماعة خُلَّبِيّة تشبه سماعة الأطباء، ولئلا يقوم الفتى بعمل مؤذ أو مخرب اتفق معه على أن يجلس في طرف العيادة مثل المزهرية، ولا يقوم بأي عمل إلا إذا طلب منه مجاهد القيام به.

عبد الله، الصديق المقرب من مجاهد استغرب هذا القرار وقال له: من دون شي الناس في البلدة يقولون عنك مجنون، وهلق أنت تتحفهم بتعيين "سحلول" بصفة ممرض لديك.
ضحك مجاهد وراح يشرح لعبد الله وجهة نظره، وهي أن شغل الطبيب طويل، ومُتعب، والواحد يحتاج أن يضحك ويتسلى، ووجود "سحلول" في المكان بحد ذاته يسلي. بتصدق؟ أنا كلما شفت سحلول ينتابني الضحك.

قال عبد الله: ولكنك قلت للناس إنه ممرض. لو قلت إنه خادم، أو أجير، أو آذن، أليس أحسن؟
ضحك مجاهد وقال: إن كلمة (ممرض) لها وقع خاص عند الناس، وتوحي بأن سحلول دارس في مدرسة التمريض، ومتعلم شؤون المساعدة الطبية، وفي مقدمتها إعطاء الحقن في العضل، وتعقيم الجروح، ومعالجة الحروق، وتعليق أجهزة السيروم للمرضى، وتجهيز غرف العمليات وتعقيمها قبل قدوم الطبيب الجراح.. بينما ممرضي المحترم "سحلول" لم يحز في حياته أي نوع من العلم، وقد بقي يرسب في الصف الثاني الابتدائي حتى استنفد فرص الرسوب، وقررت إدارة المدرسة استدعاء ولي أمره في العجل.


قال عبد الله: ما شاء الله عليك. أنت تحفظ تاريخ سحلول عن ظهر قلب.
قال مجاهد: طبعاً. وهل يمكن لمثلي أن يتجاهل قصة كهذه؟ اسمع، لأحكي لك: لما ذهب آذن المدرسة وأبلغ أبا سحلول بضرورة مراجعة إدارة المدرسة انحلت ركبتاه، وأيقن أن ابنه سحلول مرتكب حماقة لا يمكن أن تنزل في قبان. وبعد قليل تحامل على نفسه ووقف في منتصف ساحة البازار وصار يخطب.. قال:

- يا ناس يا عالم.. هل تعرفون الفرق بين الإنسان المحظوظ والإنسان المنحوس؟ الإنسان المحظوظ يكون جالساً في بيته فيأتيه مَن يخبره أن ابنه نجح في صفه بتفوق، أو أن ابنته أتقنت العزف على الكمان، وأن ابنه الآخر جاءته بعثة إلى بلاد بره بحيث يأكل ويشرب وينام ويتعلم وفوقها بيقبض راتب بالدولار.. وأما المنحوس الذي مثل حضرتي أنا فيرسل له رب العالمين هذا.. (وأشار إلى ابنه سحلول الذي كان واقفاً يراقب الموقف ببراءة وفمه نصف مفتوح).

هل تصدقون إذا قلت لكم إنه ما يزال يراوح في الصف الثاني الابتدائي منذ ثلاث سنوات؟! ثم أمسك طرفي قميصه عند صدره وقال: أحسن شي بهيك موقف أن يشق الإنسان ثيابه. هه. ومزق قميصه، ووقتها تدخل سحلول وقال له: هذا القميص ثمنه عشر ليرات. مو حرام عليك تشقه يا أبي المحترم؟

المهم يا أستاذ عبد الله، استجاب أبو سحلول لدعوة إدارة المدرسة، وسحب الفتى "سحلول" من أذنه كما لو أنه سخلة سارحة في البراري، ومشيا مع آذن المدرسة حتى وصلوا جميعاً إلى باب غرفة الإدارة، وحينما رأى المدير والأساتذة المنظر انفلتوا بالضحك، وطلب أحدُهم من أبي سحلول أن يتركه، ففعل. وحينما دخلوا، توجه أبو سحلول بالسؤال إلى الشخص الجالس وراء الطاولة، وقد عرف بالحدس أنه المدير، وسأله عن سبب الاستدعاء.

قال الرجل: يا عمي أبو سحلول، يشهد الله أنا أنظر إليك مثلما أنظر إلى والدي. والنصيحة التي سأوجهها لك الآن اعتبرها نصيحة من ابن لأبيه.. يا أخي ابنك يصلح لكل شيء عدا الدراسة. خليه يبطل بترجَّاك.

قال أبو سحلول: متلما بدك. خلص بطلناه.
وقال الدكتور مجاهد معلقاً على خاتمة القصة:
- لو أنك يا عبد الله موجود، وشفت الفرح على وجوه معلمي المدرسة في تلك اللحظة. وقد قيل لي إن إحدى المعلمات، من شدة فرحها، صارت تزغرد!
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...