العَجَلة لمّا تدور

العَجَلة لمّا تدور

11 أكتوبر 2018
+ الخط -
كرهت والله الجيرة التي جمعتني به، واضطرتني للصبر على سحنته السمجة، وهو يبادرني كلما قابلني على مدى عامين قائلاً عبارات من نوعية: "مش تهدوا شوية بقى عشان عجلة الإنتاج تدور، كلنا مع الثورة والله، بس كفاية كده عايزين البلد تستقر والناس تهدا وتشتغل وتنتج"، دون أن تفلح في إقناعه محاولاتي المستمرة للتأكيد على أنني لا أمتلك "الحيثية" التي يظنها لكي أهدئ البلد بحالها، وأنه على ما يبدو فهمني خطئاً منذ أن رآني في ذلك البرنامج التلفزيوني اليتيم، الذي أذيع قبل الثورة بأسابيع، والذي أصبحت بسببه الآن ألعن سنسفيل ابن عمتي الذي يقوم بإعداد البرنامج، مع أنني والحق يقال تحمست لعرضه بالظهور في البرنامج ذي الشعبية الفائقة، لأنتهز الفرصة وأحكي عما كان يدور في مصنعنا العريق من مهازل ومخازي، فأصبح محطّ كراهية رؤسائي ومعاونيهم، ومحلّ ثقة وأمل زملائي على اختلاف أعمارهم ومواقعهم، ولو إلى حين.

كنت في البدء أرد على جاري الحاج صبري ممازحاً بأنني أولى منه مليون مرة بالحديث عن عجلة الإنتاج، لأن علاقتي بها أوثق من علاقته بكثير، فالختم المستقر في درج مكتبه، والذي يلطعه بحساب على أوراق الناس بعد أن تطلع أرواحهم من ملل الروتين، لا يمكن أن يقارنه منصف بالماكينات التي أفنيت عمري إلى جوارها. وكان ينبغي أن أكتفي بهذا الرد المحسوب عليه، برغم أن سماجته المتزايدة من لقاء إلى آخر كانت تغريني بالتفكير في زيادة حدة الرد عليه، لكني لم أكن أفعل احتراماً للجيرة وتقديراً للست زوجته التي تربطها بزوجتي علاقة طيبة، وامتناناً لما ترسله من حين لآخر من محشيها الذي كنت أكتم انبهاري به، حرصاً على عدم إغضاب زوجتي التي كانت تأخذ مسألة تقدير طهيها وتقديسه بجدية شديدة.

لكن حبل صبري لم يتحمل رزالة جاري المستمرة، فانقطع لتحدث بيننا قطيعة كاملة، حين فقدت أعصابي ذات عصريّة مكفهرة، وصارحته بحقيقة رأيي فيه. كان هو البادئ والله، فقد كَبَس على نَفَسي وأنا عائد من الوردية مكروباً طلعان الدين والأيمان، بسبب التحقيق الذي أحلت إليه أنا وأعضاء اللجنة النقابية، على يد الإدارة الجديدة التي توسمنا فيها خيراً بعد الثورة، فعاجلتنا بالخوزقة قبل غيرنا من المفسدين والمهملين.


أكذب عليك لو قلت لك إنني أذكر كل ما قلته يومها، لكن يبدو أن كلامي كان أقسى من اللازم، لأن زوجتي قالت لي نقلاً عن جارتنا اللتّاتة التي في الرابع، إنها سمعت من شباك مطبخها صوت بكائه الحاد الذي يجعله يصعب عليك، مع صعوبة أن يصعب مثله عليك، وحين قلت لزوجتي ممازحاً ومحاولاً تغيير الموضوع، إنه ربما كان يبكي لأسباب لا علاقة لي بها، أسباب ليس من بينها خشية الله بالتأكيد، قالت لي زوجتي بملامح لم تستجب لحسي المتعابث، إن جارتنا سمعت بعد ذلك بقليل صوت زوجته وهي تحسبن عليّ خصوصاً وعلى كل ظالم مفتري وابن حرام عموماً، مما يقطع الشك باليقين في كوني المتسبب في جريان دموعه وسماع صوت بكائه الذي لم يسمع به الجيران من قبل، فلم يكن متصوراً لمن يلاحقهم في الطلعة والنزلة بالشكاوى والاقتراحات البضينة والنميمة الرخيصة، أن يبكي متأثراً من كلام قيل له، إلا إذا كان في ذلك الكلام تجاوز للحدود والأعراف التي لا ينبغي تجاوزها بين الجيران.

لم أعرف بالضبط أي جزء من كلامي أوجعه فأبكاه، فقد طلّعت فيه القديم والجديد مما يعرفه عنه أغلب سكان العمارة، إن لم يكن سكان العمارات المجاورة أيضاً، لكنني أرجح أن ما أوجعه بشدة، لم يكن اعتراضي على أنه نصّب نفسه رئيساً لمجلس إدارة العمارة، مع أن مهمة حل مشاكل العمارة كانت قد أوكلت بالإجماع قبل سنين إلى أقدم سكانها وأكبرهم سناً، ومع ذلك لم يكف عن مضايقته والتحرش به واتهامه بالتقصير. لم يكن لدي شك أن ما أوجعه وأبكاه عن حق والله، كان حديثي الغاضب عن ذمته التي يشهد الكل بوسعها وخرابها، بسبب ما يقبضه من رشاوي في الدرج وخارج الدرج، وهو ما يستوجب أن يجعل لديه قليلاً من الدم والإحساس، ويكون آخر من يتحدث عن عجلة الإنتاج التي يعرقلها بفساده وسماجته، هو وأمثاله من الموظفين معدومي الضمير والهمة، الذين خربت البلد بأمثالهم.

ومع أنني لم أكن أرميه بالباطل، ولا أتحدث استناداً إلى شهادات تتبلّى عليه، بل كنت أستند إلى بلاغات قُدِّمت بشأنه في النيابة العامة والنيابة الإدارية، ولم تُحفظ في الأدراج مراعاة له، بل لرؤسائه الحامين له والمنتفعين منه، ومع أنني لم أسبه بالأب أو الأم، ولم ألسعه قلمين على قفاه، أو أغرفه في موضع عفّته، ولو فعلت كل ذلك لكان ذلك انتقاماً مشروعاً من استلامه لي في الرايحة والجاية طيلة سنين، إلا أنني للأسف الشديد اضطررت لمصالحته في مدخل العمارة وعلى رؤوس من توفر من الأشهاد.

لم أفعل ذلك والله استجابة لإلحاح زوجتي التي حذرتني من شره ومن علاقاته المالية والاستخباراتية الوثيقة بأمناء قسم الشرطة القريب، والذين يُضرب بنجاستهم المثل، بل صالحته لأنني كنت أحب ابنه الوحيد الذي جمعني به المترو ذات ليلة، ونحن عائدان من إحدى جُمع الميدان المبهجة، أيام أن كانت جُمع الميدان مبهجة، وحين استغربت ارتباكه الشديد حين رآني، وسألته عن سر ذلك، ائتمنني على سره الثوري الذي أخفاه عن أبيه منذ قامت الثورة، وأنه يعرف أنني لن أبلغ عنه أباه لو أخبرني بألا أفعل، لكنه تضايق من الفكرة التي ربما جعلتني "أستعيِله" لأنه لا يرغب في مواجهة أبيه، لأقول له أنني على العكس فخور به، وكنت أتمنى لو كان أبنائي في سنه، لأصحبهم معي إلى الميدان، لتدور بيننا بعد ذلك الموقف مناقشات ثورية في مدخل العمارة وعلى مقربة من العمارة، كانت تنقطع على الفور حين نلمح أباه قادماً، وكان يضحك من قلبه حين أقول له ممازحاً: "لو يعرف أبوك اللي بتعمله في عجلة الإنتاج من وراه، ده كان يروح فيها"، وللأسف حين انفجرت في أبيه على مدخل العمارة، لاحظت أنه لم يعد قادراً على إخفاء ضيقه مني كلما رآني، برغم حرصه على تحيتي، وبالطبع لم أكن أستطيع أن ألومه على ذلك، وإن كنت في قرارة نفسي الأمّارة بالسوء، لا أظنه قد غضب من أجل أبيه، بل غضب من الدنيا التي ابتلته بأبٍ كأبيه.

كنت حريصاً حين اعتذرت لجاري على عدم إنكار ما قلته من قبل عن الرشاوي والفساد، إلا أنه لم يستطع تجاوز ذلك، مصراً على معاتبتي عليه لأنه رأى في ذلك العتاب العلني فرصة إعلانية للإشادة بنزاهته وضميره، ليتضح أنني كنت في فورة غضبي، قد تحدثت عن تجربة تعرض لها معه صديق لي أثق فيه كما أثق في أمي، حيث طلب منه جارنا رشوة كبيرة لينجز معاملة له، ليمسك الملعون في هذه الحكاية بالذات، ويقسم علي بأغلظ الأيمان أن أحضر صديقي هذا ليقوم بمواجهته على الملأ، وهو يعلم أنني لن أقوم بمواجهة محرجة كهذه، لأقطم رغبته في إطالة أمد الموقف، بالقول بشكل قاطع إنني لست مهتماً بالتقليب في دفاتر الماضي، وأن كل ما يهمني هو أن تظل علاقتنا كجيران طيبة ومحترمة، وألا نقول لبعضنا كلاماً مستفزاً أو مثيراً للضيق، لأن كل واحد فيه ما يكفيه، و"كل قناية متضايقة باللي فيها"، ليستجيب لما قلته متضاحكاً، ويدخل في حديث معاد "مدهنن" عن الجيرة والعِشرة والصحبة الحلوة وأيام زمان والجدعنة وما إلى ذلك من هراء، فأستعجل تعدية الليلة، بحضن كذاب وقبلتين عجولتين وكم تربيتة مرخية على الكتفين، ليتضح بعدها أن مفارقتي لطبعي الرزين، وانفعالي المتهور معه، قد أفاداني، لأنه لم يعد إلى حديث العجلة والإنتاج والسياسة و"الساورة"، لكن ذلك للأسف لم يستمر إلا عدة أشهر، حيث غلب عليه طبعه الردئ بعد أن انقلبت الآية، وأصبحت الثورة التي كان يتمسح الكل فيها، مؤامرة دولية أنقذ الله مصر منها.

على مدى أشهر تالية، تعوّدت على تجاهل أحاديثه المستفزة التي تسمّ البَدَن، كلما التقى بي في مدخل العمارة، وكان كثيراً ما يلتقيني فيه، حتى تيقنت أنه ينتظرني خصيصاُ ليجر شَكَلي بهرائه المتجدد عن الثورة التي كانت ستضيع البلد المذكورة في القرآن، وعن الرئيس البطل قاهر الخرفان والأمريكان والطابور الخامس، لم أكن أرد عليه في كل مرة، بل أكتفي بهز رأسي ورسم ابتسامة صفراء على وجهي، ولم يكن لدي والله ردود أخفيها أو أكتمها، لأنه لم يعد لدي أصلاً كلام أقوله، منذ أن أصبحت حياتي في المصنع جحيماً متجدداً طيلة الشهور الأخيرة، صحيح أن خبرتي النادرة في موقع حساس من المصنع، أنقذتني من الفصل كآخرين تعرضوا لقطع الأرزاق بشكل وحشي لم يكن يخطر على البال، لكن خبرتي وخدمتي الطويلة للمصنع للأسف لم يشفعا في إنقاذي من التكدير والمضايقات والخصومات والاستدعاءات المتجددة للأمن الوطني، ليصيبني كل ذلك بالإنهاك والزهق من كل شيئ، وحتى حين علقت زوجتي على باب شقتنا صورة الرئيس المفدى، وهو يضع يده على رأس أسد كاسر، لم أعترض ترييحاً للدماغ، ودرءاً لأذى لم يعد ينجو منه أحد، فقد كنت قررت قبل ذلك أن أدخل القوقعة بكامل إرادتي، قبل أن أدخلها غصباً عني، حامداً الله على ما رزق به من مرتب وحوافز وأرباح، واضعاً همي في الدوري الإنجليزي والزمالك وزوجتي وحماتي والعيال وما تبقى من أصدقاء القهوة.

ثم لفّت الأيام ودارت، وداست الكثير والجنيه فيما داست، ولم يعد أحد أعرفه يتحدث عن عجلة الإنتاج والبلد المحروسة بالأولياء والرئيس المنقذ والمؤامرات الدولية، بل أصبح حديث كل من أعرفه منصباً على الأسعار والغلاء والبنزين الذي لولا غلاء سعره لأحرقنا به البلد والشعب والعيشة واللي عايشينها، ومع ذلك فقد تذكرت عَجَلة الإنتاج فجأة حين رأيت وجه جاري العِكِر، بعد أن عدت ذات ليلة من "مندَبَة" جماعية في القهوة على الغلا والكوا والديون والأقساط ومصاريف العيال، وكان يمكن لتلك المندبة التي يشارك فيها بانتظام شركاء نكبة الزواج والخلفة والوظيفة من الأصدقاء القدامى أن تقضي علي بجرعتها الزائدة، لولا أن أراد الله لي أن أتخفف من كآبتها، بأفراح "عَشَرتين طاولة" ثأرت لنفسي بهما بعد طول خسارة من أوسخ أصدقائي.

حين عدت إلى البيت كانت خفة منعشة وغير مبرّرة تتملكني، لدرجة أنني لم أفكر ولو للحظة في أية عواقب محتملة، حين رأيت صاحبنا رابضاً كعادته على مدخل العمارة، لكنه لم يكن متحفزاً هذه المرة، بل كان يطرق برأسه إلى الأرض، فظننت أن نومة راحت عليه وهو في انتظاري، فقلت وأنا أخبّط على كتفه بغباوة متعمدة: "يارب تكون مبسوط بالعجلة بعد ما دارت يا برنس"، ولأنني كنت أتوقع رداً متحدياً أو ماسخاً أو قليل الأدب، وكنت أجهز نفسي للمزيد من التصعيد المحسوب، فقد فاجأني رد فعله، حين رفع إليّ عينين خاويتين ولم يعلق بجنس كلمة، فاستفزني ما ظننته غضباً مكتوماً يستعد للانفجار، لأتشجع على الاقتراب منه أكثر هامساً في تحدٍ يخجلني الآن أنه لم يكن صارخاً: "إوعى تكون زودت اليومين دول الإتاوة وحق الشاي، لازم تراعي ظروف الناس الكفرانة عشان عجلة الإنتاج تدور والبلد تبقى قد الدنيا"، ليطرق برأسه إلى الأرض من جديد، ثم ينهض بعد لحظات مبتعداً عني وعن مدخل العمارة، دون أن ينطق بحرف، فيربكني رد فعله للحظات، قبل أن يطربني فور أن قررت اعتباره ضربة قاضية، لن تقوم للسانه السمج بعدها قائمة.

استعجلت حكي ما حدث لزوجتي فور أن دخلت إلى البيت، وقبل أن أفاتحها بخيالاتي التي زينت لي التفنن في استغلال انقلاب الموازين ولو مؤقتاً، لأكبس على أنفاسه، وأسمعه كلمتين في أجنابه كلما لاقيته، لكنني فوجئت بزوجتي تقاطعني وتلومني بضيق حقيقي على ما فعلته معه، وتقول لي إنني لو عرفت ظروفه لواسيته وشددت من أزره، ولما فاتني أبداً أداء كل ما أقدر عليه من واجب، مع أنني لن يكون لي حيلة في دفع المصيبة التي ابتلي بها، بعد أن اتضح إن ابنه لم يكن مسافراً لفترة عند أقاربهم في البلد كما كان يقال لمن يستغرب اختفاءه غير المعتاد، بل كان مرمياً في السجن يا ولداه، بعد أن اعتقلوه بسبب كلمتين كتبهما على الفيس بوك في لحظة طيش.

ومع أنني لم أكن أعرف إلى أين ذهب جاري الغاضب ولا متى سيعود، فلم يكن أمامي حل آخر سوى أن أنتظره في مدخل العمارة، فأضعف الإيمان ألا ينام الليلة قبل أن أراضيه وآخذ بخاطره، ونلعن سوياً الزمان الذي ابتلانا بأيام كهذه، أنجس من أمناء شرطة القسم القريب، وأسود من قرن الخرّوب.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.