قفص الحرية

قفص الحرية

01 أكتوبر 2018
+ الخط -
- لارا.. لارا، هيا.. أنا في انتظارك.
تركض بسرعة نحو الشارع وضفيرتاها القصيرتان تهتزان، اعتادت كل صباح على سماع صوت أحمد - ذي الشعر الأسود والعينين الواسعتين ـ يناديها من أمام شباك منزلهم في الطابق الأرضي..

إنها عطلة الصيف، ويعد اللعب في الشارع بالنسبة لمعظم الأطفال في تلك المدينة ــ إن لم يكن جميعهم ــ المتنفس الوحيد الذي يجدون من خلاله المتعة ويبتكرون لأجله في كل مرّة ألعاباً جديدة.

تشرق الشمس معلنة يوماً جديداً؛ ومع بزوغها، تملأ جبال تلك المدينة نوراً وحياة، فتزدان تلك البيوت المتراصة على ذلك الجبل بوشاحٍ أصفر. كان الحي الذي يعيش فيه الصغيران ذوا السبعة أعوام يتميز بالورود الملونة المتسلقة على كل جدران بيوته ذات الطابقين، بدا المنظر من بعيد وكأنه لوحة فنية رُسمت بيد فنانٍ متمرس يسحر عقل كل من يراه ويجعل قلبه يطرب فرحاً..

- إنني سعيدة جداً لأن والدتي ستشتري لي هدية بمناسبة نجاحي، ثم تصمت قليلاً وعيناها تلمع فرحاً وتكمل: ماذا عنك؟


- لقد سبقتك بامتلاكي هدية نجاحي.

(لارا عاقدةً حاجبيها ونبرة يأس اعتلت وجهها)
- لكنك لم تخبرني بذلك

أحمد ممسكاً بيدها بقوة ويركض متجاهلاً ما قالته للتو..
- هيا.. سنلعب اليوم لعبةً جديدة، ثم بدأ يشرح لها قوانين تلك اللعبة التي غالباً ما تكون من ابتكاره.

رغم الحرب وقسوتها، إلا أن الأطفال في تلك المدينة لا بد أن يخلقوا سعادتهم الخاصة بهم حتى من أبسط الأشياء. يمكن للحرب أن تهزم أي شيء هناك إلا ابتسامة الأطفال..

كانت الساعة قد قاربت العاشرة صباحا، إنه وقت عودتهما، وعلى الرغم من شقاوة هذين الطفلين، إلا أنهما مطيعان جداً لوالديهما وهكذا كانا يتميزان بين أقرانهما.

(لارا والدموع في عينيها)
- أمي كنتِ قد وعدتني بشراء هدية لي، لكنكِ تأخرت كثيرا.

- لا زلتُ على الوعد يا صغيرتي، لكنك كما تعلمين فأنا أذهب للسوق لبيع قطع الحلوى حتى نشتري طعاما والقليل المتبقي أدخره لشراء هديتك.

في صباح اليوم التالي وعلى غير عادتها، تخرج لارا من البيت لتنادي أحمد بصوت يكاد يسمعه كل من في الحي، إنه اليومَ الذي لطالما انتظرته، فالوضع الأمني عاود الهدوء في السوق ووالدة لارا عادت للعمل مجدداً، وتستعد للخروج وهي تحمل طبقاً كبيراً يحتوي أصنافاً كثيرةً من الحلوى التي تعدها بيديها والتي اعتاد كل من يمر في السوق على شرائها..

في ذلك الوقت من كل صباح يخرج الباعة البسطاء، بعضهم يحمل طبقاً كبيراً من الحلوى أو الفطائر المعدة بأيديهم، والبعض الآخر يجر عربة فيها صنف من فاكهة الموسم أو بوظة متعددة الألوان.. يمتلئ السوق بالباعة والمتجولين وترتفع الأصوات هناك حتى تكاد لا تسمع من بجانبك.

بينما كان أحمد ولارا منهمكان في اللعب، صوت رصاص كثيف وقذائف سقطت بالقرب من السوق. كانت الساعة قد جاوزت العاشرة صباحاً ولا بد أن يكونا في بيتيهما..

أصرت لارا أن تبقى في انتظار والدتها على عتبة باب بيتهمُ الخشبي - الذي زين جانباه حوضان صغيران تنمو بداخلهما زهور النرجس - إنها المرة الأولى التي تشعر بها بالوحدة فمنذ وفاة والدها، - وهي لا زالت أشهراً - كبرت وترعرعت وهي لا ترى في العالم سنداً سوى والدتها. فقد كانت ملجأها في فرحها وحزنها وكانت رفيقتها الوفية المخلصة التي بقيت دوماً تخفف عنها أي وجع وتخفي عنها أي ألم فقد كانت السبب وراء كل ابتسامة على محياها.

قد يمتلئ العالم من حولك بالعديد من البشر، إلا أنك تشعر بالوحدة وكأن لا أحد حولك إذا خلا المكان من شخص يمثل لك العالم بأسره.. أرجوكِ أمي لا تتركيني وحيدة، أعدكِ ألا أزعجك مرةَ أخرى بطلب شراء هدية لي، لا أريد شيئاَ غيرك أنتِ.

وبينما تحدث نفسها تبدلت ملامح حزنها لفرح، والخوف لسكينة وطمأنينة، تركض سريعاً فتحتضنها والدتها بقوة وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة النصر، تقبلها ثم لا تشبع فتقبلها ثانية والدموع على خديها تحاول إخفائها بذاك الوشاح الذي كان يغطي شعرها ونحرها..

أمسكت لارا بإحكام وهي تكاد تطير فرحاً بيدها اليسرى قفصاَ لونه أبيض، مزين أعلاه بشريط ورديٍ على شكل وردة وبداخله عصفوران أحدهما أصفر والآخرَ سماويّ، وممسكةً بيدها اليمنى يد والدتها..

انتصرَ الشعب في ذلك اليوم وانتهت الحرب، وتنفس كل من في تلك المدينة الحرية بمن فيهم عصفورا لارا..

اليوم هو ميلاد تالين الخامس، كان ذلك القفص هو أغلى هدية يمكن أن تقدمه لارا لابنتها، ليكون ذكرى خالدة ليوم انتهت فيه الحرب وابتدأت فيه الحرية..
A22ED059-8EF9-48D9-BA90-07D7180964A4
هدى عز الدين

معلمة.. خريجة قسم الدراسات الإنكليزية، لدي شغف بالكتابة منذ طفولتي.. أحب مجالسة أولئك الذين يعيشون يومهم ولا ينسون غدهم.

مدونات أخرى