"أعمل إيه عشان أبقى مثقف؟"

"أعمل إيه عشان أبقى مثقف؟"

02 أكتوبر 2018
+ الخط -
1- "الثقافة إنسانية واجتهاد وأدب، وليست نزقاً وبغبغة أفكار واستعراض عضلات". لن تكون مبالغاً جداً في التبسيط، لو قلت إن هذه هي خلاصة رؤية الأديب الروسي العظيم أنطون تشيخوف لما يجب أن يكون عليه الإنسان لكي يستحق وصفه بأنه "مثقف" فعلاً.

لم يكن تشيخوف معيّناً من أحد ولا حتى من نفسه لتحديد مواصفات "المثقف الحق"، إن كان هناك أصلاً من يمكن وصفه بـ "المثقف الحق" -وللأسف لا زال هناك حتى الآن من يعتقدون بأهمية وجود مواصفات قياسية معتمدة للمثقفين والأدباء والفنانين- ولولا أن أخاه الحبيب إلى قلبه نيكولاي طلب نصيحته وسأله عن رأيه فيما ينقصه لكي يحترمه الناس ويحسنوا فهمه ولا يتعاملوا معه باستخفاف، لما كان أنطون تشيخوف قد تطوع برسم ملامح المثقف الرفيع كما يراها، ليرسلها إلى نيكولاي في عام 1886، معرباً عن ضيقه من دوام شكوى أخيه أن الناس لا يفهمونه، وهو أمر كما يقول، لم يشكُ منه جوته ونيوتن، "فقط المسيح اشتكى منه، لكن كان يتحدث عن العقيدة التي جاء بها وليس عن نفسه"، ولذلك فهو يحذر أخاه من استعمال هذه الحجة للهروب من ما يجب عليه عمله لجعل نفسه أفضل قائلاً له: "إن الناس يفهمونك جيداً، وإذا لم تفهم نفسك، فليس ذلك خطأهم".

يدرك أنطون تشيخوف بعدها أنه ربما أثقل في السخرية من أخيه ووعظه، فيعود سريعاً للتأكيد على أنه يعرف خصال أخيه الحميدة ويتفهم مشاعره، ويدرك أن لديه هبة من السماء قلما يحظى بها الآخرون، وأن هذه الموهبة تضعه في منزلة فوق ملايين البشر، "لأنه على ظهر الأرض فقط هناك فنان بين كل مليوني شخص، تضعك موهبتك في منزلة خاصة، حتى لو كنت ضفدعاً أو عنكبوتاً سيحترمك الناس، لأن الموهبة تغفر أي شيئ"، ولكي لا يأنس أخوه إلى هذا المديح المبالغ فيه، ينتقل أنطون إلى مصارحة نيكولاي بأن لديه إخفاقاً واحداً يعود إليه "زيف وضعك وتعاستك واضطراب أمعائك، ويتمثل هذا الإخفاق في افتقارك التام للثقافة، سامحني من فضلك، لكن فكما تعرف، للحياة شروطها، فمن أجل أن تعيش مرتاحاً بين المتعلمين، ولتتمكن من معايشتهم بسعادة، يجب أن تحوز قدراً محدداً من الثقافة".

في رسائله العائلية التي ترجم بعضها إلى اللغة العربية ياسر شعبان، يحرص أنطون تشيخوف على تذكير شقيقه نيكولاي بأن موهبته هي التي أدخلته أساساً في دائرة المثقفين، لكن ضعف ثقافته يسحبه بعيداً عن تلك الدائرة، ليظل متأرجحاً بين كونه مثقفاً وبين كونه مدعياً للثقافة، ولكي لا يترك أخاه في حيرة بالغة، يحدد لأخيه عدداً من الشروط التي يجب أن يستوفيها من يرغبون في وصفهم بأنهم "مثقفون"، وبرغم جدية تشيخوف فإن توصيفه لتلك الشروط، ربما كان لا يخلو من توجيه "أكتاف قانونية" ورسائل موجهة إلى أخيه، الذي حرص على تذكيره بأن ما سيقوله له من شروط هو "حسب رؤيتي"، وبرغم معرفته أن أخاه هو الذي طلب منه الإجابة على السؤال، لكنه مع ذلك يحرص على التأكيد على هذه النقطة، التي ستجعلك تتأمل هذه الشروط بحرية أكبر في نقدها والاعتراض عليها.

كانت شروط تشيخوف لمن يستحقون لقب المثقفين كالتالي:
1- احترام الجانب الإنساني في الشخصية، ولهذا السبب هم دائماً ودودون، دمثون، مهذبون، ومستعدون للعطاء. إنهم لا يتشاجرون بسبب مطرقة أو قطعة مفقودة من المطاط الهندي، وإذا عاشوا مع أحد لا يعتبرون ذلك منحة منهم ويرحلون دون أن يقولوا: ليس بوسع أحد أن يعيش معك. إنهم يصفحون عن الضوضاء والبرودة واللحم المقدد والنكات ووجود غرباء في منزلهم.

2- يتعاطفون ليس فقط مع المتسولين والقطط، وتنفطر قلوبهم لما يرونه أو لا يرونه.. إنهم يسهرون الليل لمساعدة شخص ما.. ودفع نفقات الإخوة في الجامعة، ولشراء الملابس لأمهم.

3- إنهم يحترمون ممتلكات الآخرين، ولهذا يسددون ما عليهم من ديون.

4- إنهم مخلصون، ويخشون الكذب كما تُخشى النار، إنهم لا يكذبون حتى ولو في الأشياء الصغيرة، فالكذب إهانة للمستمع ويضعه في منزلة أدنى بالنسبة للمتحدث، لا يتظاهرون، بل لا يتغير سلوكهم في الشارع عنه في المنزل، ولا يتعمدون الاستعراض أمام رفاقهم الأقل منهم منزلة، لا يثرثرون ولا يثقلون على الآخرين بثقتهم في أنفسهم، واحتراماً منهم للآخرين، فإنهم يميلون للصمت أكثر من الكلام.

5- لا يحطّون من قدر أنفسهم للحصول على شفقة الآخرين، ولا يلعبون على شغاف قلوب الآخرين، ليجعلوهم يتنهدون ويستحوذون عليهم، ولا يقولون: "يُساء فهمي" أو "لقد أصبحت شخصاً من الدرجة الثانية"، لأن كل ذلك ليس سوى سعي وراء تأثير رخيص، ومبتذل وتافه وزائف.. ولا يعانون من الخيلاء والغرور، ولا يحفلون بتلك الماسات الزائفة والمعروفة بالمشهورين، ولا يستنكفون أن يصافحوا السكير وينصتون إلى صيحات إعجاب مشاهد مشتت في معرض للصور الفوتوغرافية، ويترددون كثيراً على الحانات..

6- وإذا أنجزوا شيئاً بسيطاً فإنهم لا يقومون بتضخيمه، ولا يعطون لأنفسهم أولوية على الآخرين.. إن الموهوب الحقيقي دائماً ما يحافظ على اندماجه بين الجموع، وبعيداً قدر المستطاع عن الإعلان، وحتى كرايلوف قال سابقاً إن البرميل الفارغ يصدر عنه صدى صوت أكثر من البرميل الممتلئ.

7- إذا كانت لديهم موهبة يحترمونها، ويضحون في سبيلها بالراحة والنساء والخمر والخيلاء، إنهم فخورون بموهبتهم، وبالإضافة إلى ذلك من الصعب إرضاؤهم.

8- يُنمّون الحس الجمالي داخلهم ولا يستطيعون الذهاب للنوم بملابسهم، ولا يتحملون رؤية الشروخ ممتلئة بالحشرات، أو تنفس هواء فاسد، أو السير على أرض عليها بُصاق، أو أن يطهوا وجباتهم على موقد زيتي، ويسعون قدر استطاعتهم إلى كبح جماح رغباتهم الجنسية والسمو بها، وليس كل ما يرغبونه في المرأة أن تكون رفيقة فراش، ولا يطلبون المهارة التي تظهر عبر المضاجعات المتتالية، إنهم يرغبون، خاصة الفنانين منهم، في الطزاجة والأناقة والإنسانية والاحتواء الأمومي.. إنهم لا يشربون الفودكا طوال ساعات النهار والليل، ولا يتشممون رفوف الخزانات، لأنهم ليسوا خنازير ويعلمون أنهم ليسوا كذلك، ويتناولون الشراب فقط عندما يكونون غير مرتبطين بعمل أو في عطلة".

وبعد أن ينهي أنطون تشيخوف تحديده الخاص لمواصفات المثقف، يتذكر خطورة التعميم، فيقول لأخيه: "هذا بعض ما يجب أن يكون عليه المثقفون"، مضيفاً إلى ذلك نقطة أهم، وهي أنك لكي تكون مثقفاً ولا تكون في مرتبة أدنى من المثقفين الحقيقيين المحيطين بك، لا يكفي أن تقرأ أحدث رواية لتشارلز ديكنز، أو تحفظ مونولوجاً كاملاً من تحفة إبداعية مثل (فاوست)، بل إن "ما تحتاجه هو العمل الدائم ليل نهار والقراءة المستمرة والدراسة والإرادة"، لأن المثقف الحقيقي يدرك أن كل ساعة ثمينة بالنسبة له، وهي عبارة لن تفهم مغزاها التي قد تراه مليئاً بوعظ غريب على تشيخوف، إلا حين تراه يعبر بعدها مباشرة عن مشاعر الأخ الأكبر القلق على أخيه الذي فقد السيطرة على نفسه وإحساسه بالزمن.

يقول أنطون تشيخوف لأخيه: "تعال إلينا وحطِّم زجاجة الفودكا وتمدد وابدأ القراءة.. اقرأ أعمال تورجنيف، إذا أردت، التي لم يسبق لك أن قرأتها، يجب أن تتخلى عن تفاهتك، فأنت لست طفلاً، فعما قريب ستبلغ الثلاثين، لقد حان الوقت"، ليختم بذلك نصائحه الأخوية التي سيختلف معها أدباء آخرون أحبوا الفودكا وأخواتها، وأجادوا المضاجعة وانشغلوا بتطوير أدائهم فيها، ومع ذلك لم يثنهم ذلك عن العمل والقراءة والكتابة، وسيختلف معها أدباء غيرهم لم يحبوا العمل ولا القراءة ولا الدراسة، ولم يجدوا في الحياة ما يمتع ولا يبهج، حتى وإن كان الكتابة، وأدباء غيرهم أحبوا الكتابة كلعبة، وآخرون لم يشغلهم التفكير في ماهية الكتابة ولا في نتائجها، ولم يشغلهم فكرة وضع قواعد ينبغي السير عليها، وفي حين نجح بعض من وضعوا قواعد صارمة لأنفسهم في الحياة، في إنتاج أدب جميل، فشل آخرون في ذلك برغم كل ما ألزموا به أنفسهم من قواعد، وستجد الأمر نفسه حين تتأمل إنتاج الآخرين الذين لم تشغلهم فكرة القواعد ولا المواصفات القياسية، حيث أكسب الزمن أعمال بعضهم قيمة لم يكونوا يحرصون عليها، ووجدوا من يتعامل مع ألعابهم وعدم انضباطهم بجدية وانضباط، فليس للحياة كتالوج وحيد يتم السير عليه، لأنها ستظل دائماً أكثر تعقيداً وإرباكاً، من أن تقوم بتلخيصها نصائح أخوية صادقة ومتبصرة، حتى لو كانت من واحد من أعظم الأدباء، وهو ما ستعلمه الأيام لأنطون تشيخوف نفسه، الذي سيبدو لنا في رسائل عائلية تالية أكثر تشككاً وأقل ثقة في قدرته على حل مشاكله وأزماته، لأنه ظل يسير على ما يعتبره الطريق القويم، وهو ما تكشف عنه رسائل عائلية أخرى نواصل قراءتها غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.