ذاكرة النسيان

ذاكرة النسيان

06 يناير 2018
+ الخط -
نادرة وشحيحة هي المواقف التي نرى فيها بأمّ أعيننا موت الحبيب أو الرفيق. ماتت أمام عينيه الذابلتين، فكانت مترنمةً فوق سرير متهالك، وهو واقف ينتظر خبراً يفرحه، فماتت وتركته وحيداً، وكل مكان في هذا العالم يعيده إلى مشاهد جميلة، كان يحبّها إلى درجة الجنون، ولكن المرض تسلل إليها من بين أصابعِ القدر، فأخذها الموت بدون سابق نذير، لا لم يأخذها الموت، بل أخذها موت القلوب عندما ذهبت وتركته وحيداً يقارع الحياة لوحده.

كان تاجراً في الحب، وتجارته في الحب دامت لمدة طويلة إلى أن مسّه إفلاس رهيب وسط دهاليز بورصة المشاعر.

ضلوعه تحمّلت عبأ قلب طيب، يحب بصدق وإخلاص، بواسطة هذا القلب أنشأ أكبر بورصة سيعرفها تاريخ الحب، كانت الأسهم الرابحة في نمو كبير بين الفينة والأخرى. هي تلك الفتاة الجميلة ممشوقة الجسد، فاتنة القسمات، كأنّي أصف لكم شجرة الموز التي تنفجر عند عروشها جمالاً ولذة.

جمالها فاق جمال ملكات الجمال، ولكنها تحولت إلى ذميمة المشاعر عندما وافقت على السفر وتركته في ذلك البلد السعيد، ذهبت إلى الديار الفرنسية، لتكمل دراستها، وهو بين هذا وذاك أصيب بالحساسية جراء غبار النّسيان الذي لا يرحم.

بعد ذهابها، كان في كل يوم يتم بينهما اتصال هاتفي طويل الأمد، إلى أن بدأت تختلق المشاكل والأعذار التي جعلته يتجرع خيبة الحب والنسيان بدون سبق إصرار، كانت مجرمة بقتلها مشاعره، فلم يجد مؤسسة ساهرة على نظام الحب تطبّق ما لذّ وطاب من القوانين الجزرية على كل من حاول قتل وتدمير المشاعر. وَطأة حبّ لا ترحم، نسيان قاتم، مرارة الخسارة، العيش وحيداً، كلها حبلى من عوامل تدميرية تلتهم الأخضر واليابس من مشاعره.

إنّ الانقضاض وقتل وتدمير المشاعر هي نذالة وخسة يندى لها الجبين، المشاعر تحترم، فلا صوت يعلو فوق صوت المشاعر، بعد قطع حبل التواصل بينهما صار وحيداً يترنَّحُ يميناً وشمالاً وسطَ دهاليز المعاناة، أصبح مخلوقاً ليلياً يكابد عذاب السهر، لأنّه صار عاجزاً عن النسيان، فلا الأركيولوجيا ولا علماء الآثار استطاعوا نزع تلك الآثار المنسية.

عندما يتحول الحبُّ إلى كره عميق فاعلم علم اليقين أنّك أصبحت بين لذّة العزلة ومرارة الانتحار، كل من يحبّ بصدق، فإنه سيذوق مذاق الخسارة كأنه كان على وشك الفوز بالمونديال في ملعب ماركانا، عندما بكى "ميسي" على ضياع اللقب الأغلى، فإنه لم يستطع إنزال دمعة لأنه لم يخسر لقباً فقط، بل خسر الحياة كلها. وعند خسارة الحياة، فما ينفع البكاء ولا النحيب ولا الحسرة بعد فراق سرمديّ، هكذا هي الحياة لا أحد يبقى لأحد.

هو متأكد أنها الآن تتفنن من أجل الفرنسيين، لأنها بعد رؤيتها جمال الفرنسيين تأكدت أنها كانت عمياء عند قبولها بحب عذري! ولكن وما الحب إلا قبح ميتافيزيقي عرفته الإنسانية. أيتها الإنسانية يا مجرمة بلا حدود وألوان دافئة، فلماذا القتل والحز مع سبق الإصرار والترصد؟ إنها مجرمة بكل المقاييس، ولكن تاريخانية الحب هي تاريخانية الأخطاء.

هذه صفحة من ذاكرة، رسمت بأحرف من معاناة، وبإشارات ستبقى خالدة في الأذهان؛ لمن سيملكه الفضول من هي تلك الفتاة، سأخبره أنها الآن تتابع دراستها في الديار الفرنسية وما زالت تحتفظ بجمال عيونها وبشرتها الصافية. ما زالت تستخدم أرقاماً متعددة من أجل الفوز بدقيقة لسماع صوته ولكن ردّه هو الصمت العميق، لم يعد يهتم لأمرها. الحب هو وحده الجدير باليأس. الرجال يحبون والنساء يمكرن.

D0771653-5987-472A-9832-BC01A63DAA54
سفيان البراق

مدون مغربي... طالب جامعي في السنة الثانية شعبة الفلسفة. السن 19 سنة وأنحدر من منطقة هوارة نواحي مدينة أكادير.