أمي أستاذة الفرنسية... علمتني القرآن والدين باللغة العربية! (2-2)

أمي أستاذة الفرنسية... علمتني القرآن والدين باللغة العربية! (2-2)

24 يناير 2018
+ الخط -
استوقفني خلال الفترة الأخيرة تعليق لإحدى المشاركات في المشهد الإعلامي الشبّابي من زميلاتنا في الجزائر، معلقة على منشور فيسبوكيّ لصديق، ناقمة فيه على اللغة العربية، نافية أن تكون لغة لها تأثير أو تداول بين المثقفين الحقيقيين معللة ذلك بكون العربية اليوم لغة تخلف ورجعية لا تعكس شيئا حضاريا.. علقت باللغة العربية! فماذا لو اطلعت زميلتنا على تاريخ فترة الأندلس وهو حلقة في فلاة وسط تاريخ المسلمين العرب الحافل، هل ستصر على رأيها ونظرتها للغتها الأم؟

استحضرت حينها مقتطفا كنت قد قرأته خلال سنواتي الأولى في الجامعة وأنا أتصفح كتاب "من روائع حضارتنا" لمصطفى السباعي مستعرضا في ميدان اللغة والأدب تأثيرات لغة العرب على الغرب تحديدا في فترة الأندلس، يستشهد السّباعي في هذا الفصل نقلا عن الكاتب "دوزي" بجزء من رسالة الكاتب الإسباني "ألفارو" القرطبي سنذ 854، وعنوانها بالإسبانية Indicalo Luminoso، مفادها بأنّ المسيحيين الإسبان يعجبون بشعر العرب وأقاصيصهم ولا يدرسون التصانيف التي كتبها الفلاسفة والفقهاء المسلمون ولا يفعلون ذلك لدحضها والردّ عليها، بل لاقتباس الأسلوب العربي الفصيح، إلى أن يصل إلى التحسر على ذلك الوضع، فيقول: وا أسفاه إن الجيل الجديد من المسيحيين الأذكياء لا يحسنون أدبا أو لغة غير الأدب العربي واللغة العربية، مبينا أن ذلك قد ساء نبلاء الإسبان الذين كانت لهم نخوة وغيرة على لغتهم ودينهم، ثم يضيف قائلا: "إن أرباب الفطنة العقلية والذوق اللغوي سحرهم رنين الأدب العربي فاحتقروا اللاتينية (القشتالية بإسبانيا وقتها) وجعلوا يكتبون بلغة قاهريهم دون غيرها". وقس على ذلك لغات شعوب الغرب والشمال الأوروبي، الذين كانوا يوفدون أبناءهم إلى مدارس إشبيلية ومشافي قرطبة ودور العلم في غرناطة.

تعلقيا على آخر عبارة من الرسالة التي أخرج فيها اللغة من قالبها الأدبي إلى السياسي حين وظف تعبير "لغة قاهريهم" أؤكد كلام مؤسس علم الاجتماع المسلم عبد الرحمن بن خلدون القائل بولع المغلوب بالغالب من جهة، وهي طبيعة إنسانية لا مناص منها، فما نحن فيه اليوم كانوا واقعين فيه بالأمس، ومن جهة ثانية أحيل أبناء جيلي ومن يليهم إلى تأمل التاريخ جيدا وإعادة قراءة صفحات الماضي، كي يدرك الجميع أن الحملات الانتقامية (التي يسمونها استعمارا) التي توالت على البلاد الإسلامية بعد تسليم غرناطة استهدفت في الدرجة الثانية اللغة بعد الدين، ابتداء بشمال أفريقيا وصولا إلى المشرق العربي وحتى الذين لم تكن لغتهم العربية، كالأمازيغ مثلا، تم العمل على تعجيم ألسنتهم باللغات اللاتينية لترسيخ لغة الأعجمي وللحيلولة دون غلبة لغة القرآن عليها لكن أنى لهم ذلك!

ظلت اللغة العربية لغة لها تأثيرها رغم تراجع مناطق اللسان العربي الجغرافية التي كانت رائدة في القرون الوسطى، رغم تراجعها سياسيا وعسكريا وعلميا، فالباحث في علم اللغة أو المطلع على المجال من باب الثقافة يكتشف حجم تأثير اللغة العربية على لغات العالم حتى التي تصنف اليوم من كبرى القوى الاقتصادية والثقافية والعلمية، فكم من كلمات إسبانية أو فرنسية أصولها عربية، ناهيك عن اللغة السواحيلية والمالطية والخميادو التي ألبست القشتالية عمامة وجُبّة موريسكية.

أعتقد أننا لسنا في حاجة لأن نردد كل مرة، علاوة على الذي أسلفت، أن العربية كانت لغة العلوم والاكتشافات، لغة المبادلات التجارية ولغة العقل في عهد كان يحرم فيه إعمال العقل، لكن التذكير واجب في زمن كثرت فيه شيطنة الأنا وتقديس الآخر، المنطق ذاته الذي ينظر إلى التاريخ نظرة ضيقة بمنظار قصير المسافة لا يرى إلا ما يقع بين القدمين فيختزل التاريخ في الحاضر ويستشرف المستقبل بسطحية لا تقل عن سطحية قراءته للماضي.

اقرأ الجزء الأول: