تفضيلُ الكلابِ على كثيرٍ مِمَّنْ لبسَ الثيابَ

تفضيلُ الكلابِ على كثيرٍ مِمَّنْ لبسَ الثيابَ

19 يناير 2018
+ الخط -
هذا العنوان ليس مثلا شرودًا ولا حكمة بالغة، وإنْ بدا كذلك، إنّما هو كتاب لابن المرزبان (ت 309 هـ)، وعنوان كتابه ينطبق تماماً على كثير مِمّنْ هم حولنا اليوم، وقد كتبه مُصنِّفه، ليذكر بعض الخصال في الكلاب التي يخلو منها بعض الأصحاب، ويتجرّد منها الأخلِّاء. فقد يتفشَّى الهجران والخصام بين الأحبَّة، ويصدّ بعضهم عن بعض، وقد يبلغ أمرُهم الغدرَ والخيانة، فيعزّ علينا الوفاء ويندر وجوده، فنذهب لضرب الأمثال عن الوفاء وحُسْن الصحبة وحفظ المودّة على الحيوانات، ومنها الكلب الذي يُذكر مع ذكر الوفاء، فتُروى حوله القصص والحكايات عن وفائه وإخلاصه لصاحبه. ومَنْ يخونه ويهجره أصحابه لا يبعد أن يقول: الكلب أوفى منكم.

على مرِّ الأيام، لا يعقب جيلٌ جيلا حتّى تجد الناس يتأسّفون على ذهاب أيامهم على أنها الزمن الجميل المليء بالودّ والألفة، وذلك لتغيّر الناس على بعضهم البعض مع اختلاف الأجيال، فيندبوا أيامهم التي يعيشونها والمقبلة منها، لكثرة مثالب ورذائل أهله. فقد نرافق في حياتنا جليس السوء، وناكر الجميل، وذائع السرّ، فتكون صحبة الكلب خير من صحبته، وممّا يرويه ابن المرزبان "أنّ ابن عمر، رضي الله عنه، رأى مع أعرابيّ كلباً فقال له: ما هذا معك؟ قال: مَنْ يشكرني ويكتم سرّي، قال: فاحتفظ بصاحبك".

وقد يكون لنا فضل على أصحابنا، فمنهم من يشكر فضلك ويحفظه لك ويسعى لردّ جميل فعلك معه، ومنهم من يتنكّر لذاك، وربّما ينوبك منه الأذى، بينما الكلب إذا عطفت عليه حفظ لك معروفك معه، وإذا رآك تودّد لك، ليعبِّر عن شكره لك، ويشهد لنا ما يُروى في كتاب صاحبنا أنّه "كان للأعمشِ كلبٌ يتبعه في الطريق إذا مشى حتّى يرجع، فقيل له في ذلك، فقال: رأيتُ صبيانا يضربونه، ففرّقت بينهم وبينه، فعرف ذلك لي فشكره، فإذا رآني يبصبصُ لي ويتبعني".

ومن الأصحاب من يحفظ مودّتك بعد مماتك، فيذكرك بكلّ بخير، ويأسى على فراقك، ويدعو لك، ومنهم من لا يتأسّف على ذلك، وربّما لا يتبع جنازتك، ويبخل عليك بدعاء، فمثل هذا لا يملك من وفاء الكلب شيئا، وقد تصاحب كلبا فيحفظ لك مودّتك بعد فراقك، وربما يهلك حزنا عليك، "فقد كان للربيع بن بدر كلبٌ قد ربَّاه، فلّما مات الربيع ودُفن جعل الكلب يضرب على قبره حتّى مات".

وعلى الرغم من وفاء الكلب لصحابه إلّا أنّه لا يسلم من شرّه وسوء الظنّ به، فقد كان لأحدهم صبيّ ماتت أمّه، وكان له كلب قد ربّاه، فترك يوما ولده في الدار مع الكلب، وخرج لبعض الحوائج، وعاد بعد ساعة فرأى الكلب وهو ملوَّثٌ بالدم، فظنَّ الرجل أنّه قد قَتل ابنه وأكله، فعمد إلى الكلب فقتله قبل أن يدخل الدار، ثم دخل الدار، فوجد الصبيَّ نائماً في مهده وإلى جانبه بقية أفعى قد قتلها الكلب وأكل بعضها، فندم الرجل على قتله أشدّ ندامة، ودفن الكلب.

فإنّ البشر مجبولون على تغيّر الطبائع والتفاوت في الأخلاق ما بين انحدار وعلوّ، فيعلو البعض بأخلاقه، وينحدر آخرون فلا يميّزهم عن البهائم إلّا ما يرتدونه من ثياب ساترة لأجسادهم، بينما يتجرّدون عن الفضيلة ويتنافسون على الرذيلة، فتنافسهم البهائم في أخلاقهم وتتفوّق عليهم.

09BF102D-06A6-4954-8AE9-F49B4A2E2880
مسعود الخلف

طالب دراسات عليا في اللسانيات والمعجمية العربية في معهد الدوحة. مجاز في الأدب العربي من جامعة الفرات. وفي دبلوم التأهيل التربوي من جامعة دمشق. يمارس الكتابة الأدبية بمختلف فنونها.

مدونات أخرى