والله على ما أقول شهيد

والله على ما أقول شهيد

08 سبتمبر 2017
+ الخط -
لو سردتُ على حضراتكم وقائع النحس، التي رافقت بطل سيرتنا "أبو الجود"، منذ لحظة قدومه إلى الحياة وهو يصيح (واع ويع)، وحتى هذه اللحظة، كما هي، أي من دون تدخل مني، لما كانت لهذا السرد نكهة ولا مذاق، وما ذاك إلا لأن القصص المأساوية في حياتنا كثيرة، بل هي أكثر من الهم على القلب، وأما تحويل المادة المأساوية إلى مادة كوميدية مضحكة، فهو أمر صعب، ودونه، كما يقول النحويون، خرط القتاد (أي تشذيب الشوك!)،.. ولكنه، من جهة أخرى، عمل بارع، وممتع، ومفيد.

المهم: في تلك الأيام البعيدة طفش أبو الجود من إدلب إلى حاضرة الرشيد الرقة بعد أن حاصره الدائنون (الكَبَّاسون)، حصار المبراة للقلم (على حد تعبير محمد الماغوط) فما عاد يستطيع الخروج من الحارة إلا في الصباح الباكر، أي قبل الشحادة وابنتها، ولا يستطيع العودة إليها حتى تنقطع الرِّجْلُ منها، فلا يبقى فيها سوى الحارس والكلاب الشاردة، والبرد والطين وروائح الرطوبة والعفونة.

وأما أبو محمد، صديق أبي الجود الصدوق، فقد وقع، في بلبال وحيص بيص، لأن أبا الجود وعده أن يكتب له عن أحواله فور وصوله إلى الرقة، أولاً بأول، ولكنه، مع ذلك، غط، وما عاد يُسمع له صوت أو صدى.

بعد سنة كاملة من غيابه وصلت إلى أبي محمد رسالة كتب على مغلفها: المرسل أبو الجود.. ففتحها بلهفة واستعجال، وشرع بقراءتها، فتملكه العجب والدهشة مما قرأ، إذ هل يعقل أن تنقلب أحوال أبي الجود رأساً على عقب خلال هذه المدة القصيرة، كما يزعم؟!

يقول أبو الجود في رسالته بالحرف:

أخي أبا محمد

اعذرني أولاً للتأخر في الكتابة إليك، وأنت إذا عرفتَ سبب التأخير سوف تغفر لي إياه، فقد تحسنتْ أحوالي كثيراً هنا، فبعد أن وصلنا الرقة بعشرة أيام ماتت عمتي نورا التي أورثني إياها المرحوم أبي من جملة ما أورثني! وأنت تعرف أنني كنت أصرف عليها نقوداً كثيرة ثمناً للطعام، إذ كان لها طعام خاص يجب علي أن أؤمنه لها بموجب قائمة (جدول)، وكنت أشتري لها الحلويات الناشفة كالزبيب والمربى والتمور التي يُنصح بها لمرضى الكبد، إضافة إلى موسعات الشرايين وبخاخات الربو، وكانت فوق هذا كله تدخن بشراهة، وعلي أنا المفلس (الزملُّوطي) أن أؤمن لها سجائرها بالجملة من مؤسسة "الريجي" مباشرة، لأن السجائر هناك أرخص من السوق. وبوفاتها انخفض مصروفي بشكل كبير. 

بعد وفاة العمة الكريمة، الله يرحمها، نصحني أحد المحبين، شرواك، بأن أعمل بعد الدوام في بيع الخضار والفواكه، كالبندورة والفليفلة الخضراء والمنكا والآكي دنيا والبوملي، وهذه مآكل يحبها أهالي هذه المنطقة كثيراً.. فصرت أستيقظ قبل الإمساك بإبريق الوضوء، وأذهب إلى سوق الهال، وأشتري من كل صنف من الخضار والفواكه صندوقين، أبيع قسماً منها قبل بدء الدوام، ثم يصرفني المدير الذي تَفَهَّمَ وضعي المأساوي جيداً قبل ساعة من نهاية الدوام، فأذهب لاستئناف العمل في بيع الخضار والفواكه فما هي إلا ساعتان حتى أكون قد ربحت من النقود ما إذا حسبته على مدار الشهر فإنه يعادل ضعفي راتبي، فتأمل يا رعاك الله!

وفوق كل هذا التوفيق الذي وُفِّقْتُه خلال هذه الفترة، حصل معي أمر يشبه الربح في اليانصيب. فثمة مساحة صغيرة من الأرض كانت لأبي في حارتنا بإدلب، استملكتها البلدية منذ سنوات، وقبل أيام أرسلوا إلي شيكاً بنصيبي من قيمتها، فأصبحت، ويا للعجب! ألعب بالنقود لعباً!

قفلة الحكاية: استمر أبو محمد يقرأ الرسالة ودهشته تكبر وتتعاظم، حتى وصل إلى آخر سطر فيها ويقول: 

هذا ما حصل معي بالضبط، والله على ما (أكذبُ) شهيد!

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...