دعاء البتول والأرقط

دعاء البتول والأرقط

15 سبتمبر 2017
+ الخط -
في صباح الرابع من أيلول/ سبتمبر من عام 2017، عُثر على دعاء أبو دحلوش (مواليد عام 1998، سوريّة) جثّة هامدة في لبنان، على جانب طريق عام بلدة الصويري.

دعاء البتول ليست نادرة، هي كلّ أنثى مزّقتها الحروب والنزاعات أشلاء، وهو الضبع ليس نادراً، هو كلّ مَن كان سببا؛ لتؤول دعاء وأخواتها إلى ما آلت إليه.

شرّدتْ عن الأيائل التي تحدّرتْ مِن سفح جبل حرمون من سورية، طريدةَ حريقٍ ملتهبٍ خلفها، استعر في مراتعها. شردتْ إلى لبنان لتجد نفسها فريسة ضباعٍ تتربّص بجسدها، حين ظنّت أنّها في ملاذ آمن يحفظ لها بقيّة حياة. دعاء أبو دحلوش، التي بلغت ربيعها العشرين توًّا، وجدت نفسها وحيدةً في حافلة لنقل الركّاب على طريق عام بلدة الصويري، مع ضبع أرقط له رقبة قصيرة غليظة، وظهر محدّب، يجثم خلف مقود حافلته. يلتفت إليها التفاتة ماكرة، بأنياب صفراء سال منها لعاب الشهوة. هدّدها وخيّرها ما بين طُهْرها، أو سجنها، بتسليمها للأمن؛ لكونها لا تملك وثيقة تُثبت شرعيّة دخلوها لبنان. هالها الموقف، وتعطّل تفكيرها، لم تفكّر بأن تطعن هذا الضبع بقرونها، فما زالت طريّة ناعمة، وجدت نفسها محاصرة، بجانبها باب الحافلة يُفتح على نهاية مؤكَّدة، لم تجد أمانًا إلا أن ترمي نفسها قربانًا للطريق؛ ليسحق عظامها، رمت نفسها أضحية منسيّة على مذبح وحشيّة الإنسان، قفزت لترتطم بالطريق كجذع سنديان، لتفيض روحها شهيدة في عالم شهوة ومال، بقناع رقيّ وحضارة.

ماتت شهيدة خطايانا، وأدها خوفها الذي وهبها جسارة القفز إلى الموت إلى الطهارة، وأدها والداها اللذان لم يجعلا منها قوية صلبة حادّة القرون.

جثّة دعاء ما زالت على الطريق تئِنّ، كما يئنّ كلّ مُستضعَف يتلوّى على أرصفة الظلم والشقاء: أين الإنسانيّة؟ ما هذا الواقع الذي نتحول فيه إلى وحوش، ونخلع رداء إنسانيّتنا، كلّما حانت لنا الفرصة، ولا نتوانى عن افتراس الآخر!

دماء دعاء ما زالت على الطريق، دافئة، تصيح: على كلّ أب وأمّ أن يربّوا بناتهم على أن يكنَّ أقوى، أقوى بأجسادهنَّ وعقولهنَّ؛ لأنّها نشأت كسنبلة يؤرِّقها المنجل قبل الحصاد، نشأت على أّنها أنثى ضعيفة، وكأنها لا تعلم أن من رحمها يُنجب الشجعان.

عظام دعاء ما زالت على الطريق، مسحوقة، ترتّل: على كلّ فتاة أن تكون قويّة، لا تخشى الضباع، وأن تجعل من كلّ عظم في جسدها خنجراً تفقأ به عيون المتربّصين.

ضفائر دعاء ما زالت على الطريق، منثورة، تنشد: أنا لم أكن جبانة، أنا أشجع امرأة، لا آبه بهذا العالم وشهواته، رميت بنفسي للموت دفاعاً عن شرف كلّ أنثى، لتتعرّى فضائل الرجال.

عيون دعاء ما زالت على الطريق، شاخصة، تُبصر السماء، وتغمز كلّ امرأة: كوني شجاعة ذات كيد عظيم، لتدرئي عنك أنياب الضباع؛ لكيلا تكوني قرباناً سريعاً، وتكملي حياتكِ بسلام.  
كان الطريق رحيما بها، رجته أن ينقذ طهرها، رحّب بها، فتمدّدت عليه دون أن يسلبها شيئاً، بينما البشر يسلبون منها كلّ شيء قبل روحها. 

هذا العالم يا دعاء يديره المتوحّشون، لن يأتي يوم نعيشه بسلام، ما لم نصنع السلام لأنفسنا، كأيائل حادّة القرون تطعن عدوّها حين يُتعبها الهروب، وتخذلها المكيدة.

دلالات

09BF102D-06A6-4954-8AE9-F49B4A2E2880
مسعود الخلف

طالب دراسات عليا في اللسانيات والمعجمية العربية في معهد الدوحة. مجاز في الأدب العربي من جامعة الفرات. وفي دبلوم التأهيل التربوي من جامعة دمشق. يمارس الكتابة الأدبية بمختلف فنونها.