موت السياسة في سورية

موت السياسة في سورية

01 سبتمبر 2017
+ الخط -
(داخل سوريّة وخارج سوريّة)

الفارق بين العيش داخل سورية، والعيش خارج سورية، يتوضّح أكثر فأكثر الآن. أتواصل مع أهلي وأصدقاء داخل سورية، فيُلاحَظ تراجع الأسئلة الحقوقيّة والسياسيّة والعامّة، والشأن العام عمومًا، كالحريّة والكرامة وإسقاط النظام، وصارَت أسئلة الأمن والبقاء والخدمات اليوميَّة (غاز، كهرباء، ماء، مواصلات، صحّة) هي الأساسيَّة. الباقون يخافون أن يصبحوا لاجئين، واللاجئون داخل سورية يخافون الموت، وأن يصبحوا لاجئين في الخارج، ومن عنده أطفال مهتّم بتعليمهم وسلامتهم، ناهيك عن هاجس لقمة الخبز بسبب ارتفاع الأسعار. خارج سورية، الناس تفكّر بأريحيّة أكثر، بسبب انعدام المهدّدات الأساسيَّة، والسؤال الحقوقي والسياسي هو الأشد، كإسقاط النظام ورحيل الأسد. 

عمومًا، كل من داخل سورية، ويفضّل حياته الشخصيَّة وأصيب بالملل من الشأن العام والتعب والقرف من السياسة، ليس عميلاً للنظام ومخانعاً، و"غير ملتزم بمبادئ الثورة"، كما يقول ويروّج كم معارض عديم المسؤوليّة في الخارج، خرجوا من سورية لضمان سلامتهم أوّلاً!، وربّما لم يزوروها من أيام مسلسل “حمام القيشاني".

(الفيسبوك كوسيلة لامتلاك الكلام)

ثمَّةَ حقدٌ على الفيسبوك كوسيلة تعبير وكتابة من قبل كثير من الناس (والملاحظ أنَّ الأكثريَّة هم أشخاص من جيل أكبر). إمّا بحجج فاشيَّة، وبالاستعانة بمقولات سخيفة لأمبرتو إيكو تقول: "تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى". و"تجعل الجميع يتحدث كمن يحمل جائزة نوبل" (على أساس فقط حملة جائزة نوبل يحقّ لهم الكلام). أو بحجج، بأنَّ الفيسبوك قضى على الصحافة. ويتبع هذا الكلام دومًا حنينٌ إلى أيام غابرة، حيث "رائحة الورق" و"ملمس الجريدة" و"جماليَّة الصحافة" ومجلة "شعر". غير أنَّ شتّامي الفيسبوك، دومًا، موجودون على الفيسبوك، وهم نشطون غالبًا، ويشتمون من يسمّونهم "الفيسبوكيين" عبر الفيسبوك نفسه (ههههه فيسبوكية). لكن للفيسبوك، باعتقادي، إيجابيّات أكثر بكثير من السلبيّات.


في زمن دولة ما بعد الاستقلال، كان الكلام وقواعد اللغة وتقاليد النشر وإمكانيّة التعبير أمرًا مُحتكرًا في يد نخبة إعلاميّة أو ثقافيّة ضيقة، مرتبطة أو مهادنة أو غير نقديَّة، على الأقل، تجاه السلطات السياسيَّة. وكانت البلاغة والرطانة والتفخيم شيئاً سائدًا في الصحافة العربيَّة ومنابر التعبير (أتحدّى أن يستطيع أحد أن يقرأ جريدة عربيَّة نشرت في التسعينات مثلاً، دون أن يفرط من الضحك)، وكان اختراقها أمرًا في غاية الصعوبة. الفيسبوك، نعم الفيسبوك، كأداة تعبير، ساعدتني بالاطلاع على كميّات هائلة من النقاشات في مصر ولبنان والمغرب والعراق، ومعرفة بعض الجوانب الخفيَّة وغير الواضحة لي في صراعات سياسية واجتماعيّة وثقافية، لم أكن بالتأكيد سأعرفها وأقرؤها عن طريق الإعلام الرسمي أو الحزبي لهذه الدول. للفيسبوك سلبيّات أيضاً أكيد. ولكن عالم الفيسبوك، بالتأكيد هو عالم أكثر عدالة وانفتاحا، وللناس إمكانيّة أكبر في استلام زمام الكلام. والحنين إلى "الأيام الغابرة" هو حنين على الأقل، إلى جرائد "تشرين" و"الثورة".
دارا عبدالله
دارا عبدالله
كاتب سوري يقيم في العاصمة الألمانيّة برلين، من مواليد مدينة القامشلي عام 1990. له كتابان: "الوحدة تدلل ضحاياها" (صادر عام 2013) و"إكثار القليل" (صادر عام 2015). يدرس في كليّة الفلسفة والدراسات الثقافيّة في جامعة "هومبولدت" في برلين. من أسرة "العربي الجديد" ومحرّر في قسمي المدوّنات والمنوّعات. يمكن التواصل مع الكاتب عبر الحسابات التالية:

مدونات أخرى