جني يخرج من كعب الحذاء

جني يخرج من كعب الحذاء

19 اغسطس 2017
+ الخط -

بما أن، أبو قدور، كان يعاني من عجز وآلام في ساقيه، فقد كان أبناؤه يساعدونه في صباح كل يوم، عدا يوم الجمعة، في الصعود إلى العربة الصغيرة ذات العجلات الثلاث التي تُعْرَفُ باسم "طريزينه"، ويسميها أهل البلدة (الطرطيرة).. ويصعد أحدُهم وراء المقود ويقودها ليوصله إلى الدكان، وهناك يُنزله، بمساعدة الجيران، ويسحبونه من يده حتى يصل إلى مقعده وراء طاولة العمل العامرة بالأحذية والمطارق والمسامير واللواصق والتسميكات ومختلف القطع التي تلزم لإصلاح الأحذية، إضافة إلى اللواقط الخاصة بالراديو، وهذه تلزم له حينما يريد أن يصنع مقلباً بأحد أبناء البلدة. والجيران يمازحونه بعبارات يومية من قبيل: أهلين بالقبضاي أبو قدور، أهلين بشيخ الشباب، يعلم الله أنك حضرت إلى سوق الأحذية والقندرجية ولم يحضر واجبك.. أهلين بالفحل. وهو يرد عليهم بعبارات زاجرة من قبيل: ورصاص، وضريب، وفَشَك، وبرابللو.. إلخ.

وكان أبو قدور يمتاز بمقدرة عجيبة على ضبط نفسه عن الضحك حينما يكون الموقف مضحكاً، بل إنه لم يكن يضحك على الإطلاق، وكان هذا يساعده على إيقاع مَن يشاء في الموقف المضحك الذي يرسمه بعناية فائقة. 

وأما الروتين اليومي الذي كان أبو قدور يعيشه فيتلخص في أنه يعمل في إصلاح الأحذية حتى الساعة الواحدة والنصف ظهراً، فتكون استراحة الغداء.. وكان الغداء يصل إليه بواسطة أجير مطعم أبو إبراهيم، ويكون حسب برنامج متفق عليه بين صاحب المطعم والزبائن. 

المهم، في أواسط السبعينيات، ظهر بين النساء زيٌّ غريب، وهو كعب الحذاء المستدير، وكانت نساء بلدنا غير معتادات على هذا النوع من الكعوب التي تسبب لهن التعثر أثناء المشي باعتبار أن أزقة البلدة مبلطة بحجارة غير منتظمة، فكانت المرأة تخرج من البيت وهي ترتدي الحذاء الجديد، ومِنْ أول عَثرة بحجر مدبب أو سقوط القدم في حفرة صغيرة ينقلع الكعب وتصبح مشية المرأة مضحكة لارتدائها حذاءً إحدى فردتيه عالية والثانية واطئة، وأحياناً تضطر لأن تخلع الفردة المضروبة وتحملها وتمشي على قدم واحدة مثل اللقلق.. 

وذات يوم، في تمام الساعة الواحدة والنصف ظهراً، كان أبو قدور ينتظر الغداء، وكان اليوم هو (الثلاثاء) لذلك فهو يعرف أن الوجبة هي رز وفاصولياء، ويعرف مكوناتها بدقة نظراً لتكرار البرنامج على مدى عدة سنوات. 

قالت المرأة: يا ريت يا حاجي تصلح لي كعب الحذاء. فقد انقلع وأنا ماشية في السوق.

نظر أبو قدور بالكعب، وتظاهر بأنه مندهش منه بسبب استدارته، وقال: 

- يا سلام. صدقيني أنا أشتغل بهذه المهنة من ثلاثين سنة ولم يمر كعب مثله. 

وتأمل في الكعب ملياً وقال: كم يشبه قرص التلفون؟ بيحكي؟

فانفلتت المرأة بالضحك وقالت له: وبا يقشك يا أبو قدور. كعب كندرة بيصير تلفون؟

فقال لها بجدية تامة: بدي أجرب.

ووضع إصبعه على الكعب وشرع يدوره ويضرب أرقاماً ثم وضعه على أذنه كما لو أنه سماعة هاتف وقال: 

- يا ابني، بدي صحن رز، وصحن فاصولية، ورغيف خبز، وحبة بندورة وملعقة وسكين.. خلال دقيقة واحدة، بدي أسكر السماعة ألاقي الطلب قدامي.

وما إن أبعد الحذاء عن أذنه حتى حضر أجير المطعم ومعه ما ذكره أبو قدور بحذافيره..
أجفلت المرأة، وهربت وهي تصيح: 

- جني جني، هادا الرجل جني، طلع الحكي من كعب الحذاء متل التلفون! جني جني جني. 

     

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...