حُبّ الفلسفة المعاصرة

حُبّ الفلسفة المعاصرة

09 يوليو 2017
+ الخط -



القرن العشرون، وما حفلت به أقلام الفلاسفة كان عميقاً وقريباً من الروح الإنسانية والجسد في حضورهما الواقعي والشخصي، وقد تناوب العديد من المدارس الفلسفية في التأثير على أفكارنا نحن طلاب الفلسفة ودارسوها.

وأذكر أن البراغماتية كانت لمعةً فكريةً، دفعتني لتجاوز الأفكار المثالية عن الواقع والحياة، وأنني وعبر دراستها وعلى الرغم من إعجابي بمؤسسها الفيلسوف الأميركي، تشارلز بيرس، إلا أنني كنت أكثر إعجاباً وتأثراً برائدها الآخر جون ديوي الذي كتب فلسفة تربوية واقعية، متجاوزاً ما هو قديم لما هو مبتكر.

ولعله اكتسب تلك النزعة البراغماتية النفعية من اشتغاله بتدريس الفلسفة في مدينة شيكاغو الأميركية. فقد وجد أن الناس هناك لا يؤمنون بالنظريات غير المجدية، وإنما بالعمل والسعي الذي من شأنه أن يؤدي وحده إلى تحقيق رفاهية الإنسان وإشباع حاجاته.‏

أما ما عرفته عن البنيوية فهو أنها ليست منهجاً مطبقاً بطريقة واحدة عند الجميع، ويظهر هذا التباين في الأسلوب المتبع في أعمال البنيويين الكبار أنفسهم، وهكذا يجد المرء لدى ليفي شتراوس، ما لا يجده لدى فوكو، ولاكان، وكان لـ"تاريخ الجنون" لميشيل فوكو وما سطره من إبداع تأثير خاص في التفكير، إن الجنون شيء آخر غير كونه بؤرة للشر والفساد، ولكل العيوب ولكل الاعتداءات على الأخلاق، وفي تركيبته يندرج كل ما سمعناه ورأيناه، وكل ما تأملناه وفكرنا فيه. ففي داخله تحيا الصور القديمة، وتحيا من جديد الأحقاد التي كنا نعتقد أنها انتهت إلى الأبد، وداخله تصبح الميول أكثر حدة، فالأفكار في اختلاطها تشبه حروف مطبعة يتم تجميعها دون غاية ودون ذكاء؛ فيغدو الحاصل أن لا شيء له معنى.

ثم جاءت التفكيكية 1960 كرد فعل على البنيوية، وقد حاول روادها نقد الطرح البنيوي الذي كان يعمل على كشف البُنيات الأساسية والمسؤولة عن الملامح الأكثر ملاحظة في التفاعل الاجتماعي والثقافي، واعتبر دريدا مصطلح التفكيك في كتابه "علم الكتابة- الغراماتولوجيا"، بأنه ليس مفهوماً سلبياً، إذ ترد كلمة التفكيك في القواميس بالهدم والتخريب، وهكذا تبدو التفكيكية عند دريدا بالمعنى الإيجابي للكلمة أي محاولة التصحيح وإعادة تركيب البناء وتقويض المقولات المركزية، وتعرية الفلسفة الغربية التي مجدت مفاهيم كثيرة مثل العقل، الوعي، البنية، المركز، والنظام، والصوت، والانسجام.

وهذا بدوره ينقلني لعالم الوجودية التي كانت بالنسبة لي مدرسة فلسفية وأدبية في آن، وقد نقلتني لقراءة الذات الفردية ومكنوناتها وقدراتها اللامحدودة، ولحرية هذه الذات المقدسة، وكيف تصنع هذه الذات كيانها المستقل، متحررة من كل القيود.

ولعل سارتر وكامو أكثر من رسم لهذه الذات صورتها، ودعوا لإثبات وجودها، فمقولة سارتر الرائعة: "نحن ما زلنا بورجوازيين بثقافتنا، بطريقتنا في الحياة، وبجمهورنا الحالي، لكن الموقف التاريخي يحثنا في الوقت نفسه على الانضمام إلى البروليتاريا لبناء مجتمع بلا طبقات"، قد رفعت القيم لمراتب إنسانية فائقة الجمال.

وأما ألبير كامو فقد اعتبرته أديباً وفيلسوفاً عميقاً سبر أغوار النفس الإنسانية ووصل لأبعد وأعمق زواياها، "الخطيئة لا تتمثل في المعرفة؛ وإنما تتمثل في الرغبة فيها، والحق إنها الخطيئة الوحيدة التي يستطيع الإنسان العبثي أن يشعر بأنّها تؤلف جريمته وبراءته معاً"، لقد علمني كامو الصدق في البوح، والموقف، والحياة، "لو كان علي تأليف كتاب عن الأخلاق لجعلته من 100 صفحة، 99 منها بيضاء وكتبت في الأخيرة: لا أعرف سوى واجب واحد، ألا وهو الحب".

وفي النهاية، لا بد أن أذكر المدرسة الفلسفية التي رسخت التطور الفكري الإنساني، لتوصلنا لما جاءت به؛ وأقصد بذلك فلسفة العلم وقد كان مبدأ التكذيب عند بوبر أساسا انطلقت منه تلك الفلسفة وأسست لأفكارها، مع إضافة كل علم من أعلامها فكره الخاص، فمنeverything false أي كل شيء باطل، عند الفيلسوف المجري إيمري لاكاتوس، إلىeverything goes عند فييرابند، ومعناه "كله ماشي" كما ترجمها المصريون، وعليه فقد تركزت الأفكار حول نسبيتها، وإمكانية تجاوزها بأفكار جديدة، أكثر تطوراً منها، هذه العقلانية التي أثبتت صحتها فيما جاء به العلم لاحقاً، وكان لها الأثر الكبير في التمهيد للثورة العلمية الكبرى.

دلالات

8208D0E6-2CD2-427A-A70D-51834F423856
يسرى وجيه السعيد

حاصلة على دكتوراه في فلسفة العلم من جامعة دمشق. ومدرسة سابقة، في قسم الفلسفة بجامعة حلب.