لا حيٌ ولا يقظانُ

لا حيٌ ولا يقظانُ

30 يوليو 2017
+ الخط -
يقول هاروكي موركامي: "أنا واحد من هؤلاء البشر الذين يفضلون البقاء بلا رفقة، ولكي أكون أكثر دقة، أنا شخص لا أجد في الوحدة أي ألم أو عناء، كنت دائما أفضل قراءة الكتب في عزلة تامة عن تواجدي مع أي شخص آخر، فأنا دائما لدي أشياء لفعلها وحيداً.

إن معظمنا يربط الحياة بالكثرة، والوعي بالخبرة الاجتماعية، متجاهلاً دور العقل الفردي وتأمله، واكتشافاته. وقد أشارت العديد من الدراسات الحديثة، إلى فضل المغامرة الفردية، وأثرها في الإبداع. ولعل هذا ما سبقنا لاكتشافه الفيلسوف العربي ابن طفيل عبر قصته الفريدة "حي بن يقظان".

وكنت قد قرأت مرة للمفكر العربي حسن حنفي رأياً ما زلت أحتفظ به في ذاكرتي حول تلك القصة؛ وكان رأيه أن ابن طفيل كان قاصداً في اختيار اسمها، وأن للعنوان دلالة رمزية؛ فالحياة بنت اليقظة، اليقظة الأصل، والحياة الفرع.

ولا يخفى على دارسي الفلسفة والأدب القيمة المعرفية الكبيرة التي أسست لها تلك القصة،  وهي في رأي النقاد نص أدبي، وفن من فنون القصّ العربية بما تحويه من لغة وسرد وخيال أدبي، كما أنها عمل فلسفي على مستوى رفيع، وفي غاية العمق لصاحبها 

أبو بكر محمد بن طفيل ( 1105 -1185 م) عالم أندلسي متعدد الثقافات، ولد بالقرب من غرناطة في إسبانيا، وتُوفي بالمغرب. وتُعتبر قصته أول رواية فلسفية، كما اعتبرها آخرون  النسخة العربية التي سبقت رواية روبنسون كروزو للكاتب دانيال دوفو.

و"حي بن يقظان" رواية بطلها الإنسان، توضح بأسلوبٍ عميق علاقة الإنسان بالكون والدين، في إطار فلسفي، يهتم بطرح الأجوبة والأسئلة بآن، ويبدو أن أصل المعرفة هو السؤال الرئيس الذي شغل المؤلف فطرحه بعدة تجليات على لسان بطل روايته حي، وتجرِي أحداثها على جزيرة معزولة غير مأهولة بالسكان، حيث قامت الظبية التي فقدت ابنها بِإرضاع حيّ، الفاقد لوالديه ويبدو أن كلاً منهما أعطى الآخر ما يحتاجه من رعاية وحنان، وكلاهما عوّض الآخر عن فقده، إلى أن اشتد بنيانه، وكان لقاؤه بالمتصوف آسال أثرا واضحاً في معرفة لغة الكلام، كما أن هذا الأخير كان همزة الوصل لحي بالعالم الإنساني الاجتماعي الذي كان يجهله.

وتبدو عبر سرد أحداث القصة سعادة آسال حين وجد أن "حياً" قد وصل دون معونة أحد إلى معرفة الله، وشرح لحي عقائد الناس الدينية في الأرض، ودفع حي لمكاشفتهم والاختلاط بهم. لكن سرعان ما تبين له خوف الناس من الحقائق وارتباطهم بالدين بناء على مزجه بالأساطير والمعجزات. وهذا ما ينكره عقل حي الفعال، والباحث عن الحقيقة في جذورها وأشكالها العقلية. مما دفع في النهاية بحي للعودة برفقة صديقه للجزيرة، والعودة لرحلاتهما الفكرية العميقة التي أوصلتهما إلى معرفة الله دون خوف أو مواربة.

"فأصغِ الآن بسمع قلبك وحدق ببصر عقلك إلى ما أشير به إليه لعلك أن تجد منه هدياً يلقيك على جادة الطريق". والطريف في قصة حي بن يقظان أن المعرفة الحقة تنبع من داخل الإنسان ولا تحتاج للاندماج الاجتماعي أو الضجيج الذي يبدو أنه سبب في غياب التفكير الحر، وتقييده، وهذا ما دفع حي للعودة لجزيرته، واكتشافاته الفكرية عن طريق العقل الإنساني المفكر، الذي يغمره نور العالم العلوي، فيصل لمعرفة الوجود بالفطرة والتأمل، ولعل أهم ما نستخلصه من القصة أهمية التجربة الذاتية في الخبرة الفكرية والدينية معاً، هذه التجربة استطاعت ببراعة صاحبها أن تنقل العقل من أدنى أشكال المعرفة ونقصد الحسية، إلى أعلاها؛ ونقصد بذلك المعرفة العقلية.

وما ندركه بعد قراءة تلك القصة أننا بعيدون كل البعد عن أصل الحياة، التي يجب أن نحياها، بالتأمل والتفكير، وأنه يجب علينا الابتعاد عن التلقين البغيض، أو التلقي الأعمى لننال جوهر المعرفة الحقيقية، ولننعم بمعنى الحياة الأصيل البعيد عن القيود والجهل، لأن أكثرنا على ما يبدو لا هو حيٌ، ولا هو يقظانُ!

8208D0E6-2CD2-427A-A70D-51834F423856
يسرى وجيه السعيد

حاصلة على دكتوراه في فلسفة العلم من جامعة دمشق. ومدرسة سابقة، في قسم الفلسفة بجامعة حلب.