صديقي لبنان

صديقي لبنان

29 يوليو 2017
+ الخط -
في واحدة من رحلاتي الأسبوعية بين حلب ودمشق قبل الثورة، جلس خلفي شابان، اكتشفا سريعاً أنهما خدما العَلَم في المكان ذاته في قطعة عسكرية سورية بلبنان. وطوال خمس ساعات هي مدة السفر تقريباً، لم يتوقفا عن الكلام في الذكريات. وكنتُ بطبيعة الحال أسترق السمع إليهما، فهذا حديث يثير فضولي.

تحدثا عن أيامهما "الجميلة" في لبنان، "أجمل أيام العمر"، عن قيام الجنود بتجريح السيارات الفخمة بحربة البندقية أو بالمفاتيح، وكيف أن أصحابها ما كانوا يجرؤون على فتح أفواههم، عن هز أشجار الفاكهة وتعفيس الثمار بأرجلهم دون أن يتذوقوها لأنهم أصلاً لا يأكلون الفاكهة، عن إطلاق النيران في حارات راقية لإزعاج النائمين في ساعات مبكرة من الصباح، عن تكسير نوافذ البيوت بالحجارة، عن إذلال الطاعنين في السن على الحواجز، عن التحرش بالصبايا، عن الصبية التي اغتصبها معلمهما الضابط عندما ضبطها مع عشيقها إمعاناً في إذلاله، تحدثا عن كل ما من شأنه أن يجعلك تنكمش في مقعدك وتخجل من نفسك، ومن الكائنين الحيوانيين اللذين كانا يذكران ذلك كله بنوع من النشوة والحنين.

بعد تلك الرحلة أدركت كم وجعنا عظيم ومصابنا فادح، أدركت خطورة فجوة الكراهية التي صنعها نظام الأسد ومخابراته في لبنان من خلال تقصّده التعامل معه كجارية يمتهن كرامتها وحريتها.

لبنان يا صديقي، لم نشكك للحظة واحدة بقدرتك على التمييز بين الجلاد والضحية.
فالصورة التي رسمها لك هؤلاء الجنود قابلتها صورة مغايرة تماماً رسمناها نحن، السوريين العاديين، فأنت يا صديقي الرئة التي كنا نتنفس منها، حرية وعلماً ومعرفة وكتباً وفناً طوال سنوات الكبت الأسدي. كانت حدودنا متقاربة جغرافياً، ولكننا كنا ندرك جيداً المسافة الشاسعة التي تفصل حضارياً بيننا! كنتَ ميناء الحداثة والفكر الجديد، منك تعلمنا الشعر الحديث والرواية والفنون الحديثة.

من مواقفك كنا نصنع انتصاراتنا الصغيرة ضد نظامنا المجرم. لن تتخيل سعادتنا برؤية صحافي لبناني على فضائية ما وهو يهاجم نظامنا، كان يتحدث باسمنا، بأوجاعنا نحن الرازحين تحت وطأة الطغيان. مظاهراتك الرافضة وجود جيش الأسد ومخابراته في لبنان كانت برداً وسلاماً على قلوبنا، والقرار الدولي بخروجهم أذلاء من أرضك كان عرساً في دوائرنا الضيقة المرتجفة.

ثم جاءت الثورة، أخيراً جاءت، وأخيراً بتنا نتحدث عن إمكانية أن نصبح مثلك، عن إمكانية أن نقلص المسافة الزمنية التي بيننا. كنا ننتظر مساعدتك لنا، لا في افتتاح مخيمات لشعبنا، ولا في إيواء مشردين، لا، كنا ننتظر دعمك لنا في حلمنا، ولكنك يا صديقي قررت أن تلتزم الصمت، وأمام الدم التزمت الحياد! وتركت نفسك لتصبح مثل جلادنا.

لم تنشد لنا جوليا "نشيد الحرية"، لم تنشد "لشمس الحق التي غابت" عن وجوه مئات آلاف الشهداء، ولا عن "الصامتين" عن قتلنا، لم تقل لنا "يا شعبي" "قرّب النصر"، "لم تتنفس معنا حرية"، واكتشفنا أن جوليا "تغيرت كتير" وحبنا لها كان "سوء تفاهم"، وسرعان ما غنّت لقاتلنا متجاهلة كل صيحاتنا وكأنها "ما عم تفهم عربي"!

أما زياد الرحباني، الذي كانت مسرحياته وأغانيه متنفساً حقيقياً لنا، فسحق "فسحة الأمل" ولم ينتظر أبداً ليسألنا "بالنسبة لبكرا شو"؟ وقرر بسرعة أن ثورتنا "شي فاشل"، ساخراً من "الكرامة والشعب العنيد" ليبشرنا بأن "زمان الطائفية" "راجع بإذن الله"، وأن "عسكر سورية" الذين كان عليهم أن "يكشوا برا" أصبحوا "النظام"، وأن "الحرامية قد أصبحوا أبطال".. وهكذا ببساطة "كذّب عياش"!

صديقي لبنان، حبنا لك يمنعنا من العتب عليك، ولكن إياك أن تتخذ من جلادنا/ جلادك قدوة لتمارس الطغيان على أخيك الضحية. لا لأجلنا، بل لأجلك، فالوحوش التي تسوّق نفسها مخلصاً لك اليوم، لن تميّز مستقبلاً بين دم وآخر، شهوة الدم واحدة، وستنهش أول ما تنهش لحمك أنت!

صديقي لبنان، عليك أن تختار في أي جانب تكون، رياض الصلح أم حسن نصر الله؟ سمير قصير أم شارل أيوب؟ جبران خليل جبران أم ناصر قنديل؟ لبنان أم اللالبنان..؟

كن بخير صديقي، نحن بانتظارك لتؤكد لنا كما فعلت دائماً، أن حبنا اللبناني ليس سراباً..