وارث الشواهد بين الإعجاز والآثام

وارث الشواهد بين الإعجاز والآثام

27 يوليو 2017
+ الخط -




وارث الشواهد، هي الرواية الثالثة للكاتب الفلسطيني وليد الشرفا، وهي كما عرَّفها، رواية ضد الروايات وضد التاريخ، نفياً ويقيناً، وهي ليست مبشرة بمشروع للإيمان أو الإيمان المضاد، كما أنها انسياح هذياني في وجدان الضحايا المرتبط بشواهد القبور وتعدد صور الموت، وذلك الإرث الثقيل من الروايات التي دفع الفلسطينيون ثمنها دون أي تورط.

تخوض الرواية في إعادة الإنتاج السردي لقرية عين حوض التي تقع جنوب مدينة حيفا. هذه القرية التي قامت المنظمات الصهيوينة بتشريد أهلها عام 1948، وعلى أنقاضها أقيمت مستوطنة نير عتسيون عام 1949، ومن ثم مستعمرة عين هود عام 1954.

تبدأ قصة الرواية عندما يسرد الوحيد "بينما هو يقبع في سجن الدامون على دالية الكرمل" حدث مقتل والده، حيث أوقفه الجنود الذين احتلوا مدينة نابلس وهو عائد من المدرسة، وطالبوه برفع يديه بعد أن أخذوا كتبه، وعندما رفع يديه صوب أحدهم رصاصتين نحو صدره، ليصبح الشهيد المجهول، صاحب القبر المجهول على مدخل مدينة نابلس.

بعد مقتل والده، يسافر الوحيد إلى بلاد الغرب ليكمل دراسة التاريخ. ومصادفة، تلقيه الرواية على خشبة المسرح في بلاد الغرب، ليلتقي بالطبيب بشارة الذي سيصبح في ما بعد صديقه، وبالكاتبة ربيكا التي ستصبح زوجته وأم ابنته ليلى.

وبينما كان جده يصارع المرض، يعود الوحيد إلى نابلس تاركا زوجته وابنته، ثم تتصاعد الأحداث نحو ذروتها الصغرى عندما يتوفى جده ويدفنه بجوار قبر والده في نابلس. بعد ذلك، يذهب الوحيد مع بشارة إلى حيفا وعين حوض لرؤية منزل جده، وعند وصولهما إلى البيت يطردهما صاحب المنزل الجديد "الفنان اليهودي". يتجهان بعد ذلك نحو حانة قرية الفنانين "قرية عين هود"، وهنا تبدأ الذروة الكبرى، ليصاب الوحيد بهواجس المكان وأرق الروايات التي قادته نحو شاهد منزل جده "صالح المحمود" في حمام الحانة، يبدأ الوحيد بالانهيار، وبينما هو يحاول تحطيم الحجارة حول الشاهد، يدخل عليه شرطيان يحاولان اعتقاله، ولكنه يحمل زاوية الشباك ويهوي بها على رأس الشرطي، ليعتقل بعد ذلك ويصبح متهما بالقتل.

يتولى الطبيب بشارة كتابة حكاية صديقه، وتبدأ عمليات التحقيق مع الوحيد ومعها تتناثر الأحداث والذكريات مع الطبيب، إلى أن يصله أمر بالإقامة الجبرية في منزله، وتستمر الأحداث بشكل متصاعد إلى أن يتم اعتقال الطبيب وتقديمه إلى المحاكمة هو وصديقه الوحيد. وفي المحكمة تتجلى المعجزة في الوحيد عندما يعلم غيب القضاة والتاريخ، أما النبوءة فتتجلى عندما يهدد القاضي بسحب الجنسية الإسرائيلية من الطبيب، فيرد عليه: "ماذا سأخسر سأعود فلسطينيا نقيا".

يحمل الوحيد "وارث الشواهد" العبء الأكبر في هذه الرواية، وهو مؤرخ فلسطيني يعجز عن كتابة حكايته، هجر جده من عين حوض بعد النكبة، وقتل والده في اليوم الثاني للنكسة ودفن في قبر مؤقت وضع عليه اسم الشهيد المجهول.

الوحيد، هو الادعاء الذي يحاور به الكاتب وسوسة الروايات "الدينية والتاريخية" حول مأساة فلسطين، وهو التيه الذي تربى على روايات الجمال والكرمل، تربى على أن البحر في عين حوض يكون عتبة البيت والريح سقفه. الوحيد فلسطيني دفع ثمن رواية الأرباب ومهووسي التاريخ، فكان العبء ثقيلا، حتى سُلب بيته ووالده وطاردته لعنة الشواهد حتى صار شاهدا منسيا تحييه الراوية.

كما الشواهد، مكتظة هذه الرواية بالصور. تلك الصور التي تعيدنا إلى مشهد الخلاص. إذ لا خلاص في الحياة إلا بالخلاص من الحياة، حيث تختفي كل التناقضات، أما عن التطهر فهو عقدة الأنبياء وحجة المُخَلِّصين وهي أيضا لعنة المعجزات وأرض المعجزات التي باركها الرب بالملاحم والتضحيات.

مرعبة تلك الشواهد التي اخترقت الوحيد، مرعبة وهي في هولها صدمة ذات حدين، حد يقود إلى الجنون، وحد يقود إلى العدم. لقد حذر الرب أقواما سالفين، ولقد كان التحذير بمثابة إنذار الوقوع في الخطيئة، عاجلا أم آجلا. وها هو الكاتب يُحذّر "وحذره بمثابة تنويه" كما الرب: "فعلى القارئ أن يطمئن لسلامة روحه، لأن شراكته في الإعجاز، لا تعني شراكته بالآثام الواردة فيه". فأنا كنت شريكا بالإثم عندما تساءلت: "ما جدوى المعجزات إن جاءت لتثبت أن الرب على صواب، لكنها لم تغير حال المقهورين في أرض المعجزات".

F6DC94E6-6701-4E86-8E8A-9BAD45FC60FC
مهند بيّاري

صحفي فلسطيني. طالب ماجستير في جامعة بيرزيت- تخصص نوع اجتماعي وتنمية.