رسائلي لنفسي

رسائلي لنفسي

09 يونيو 2017
+ الخط -

فلنعد للكتابة، وهي التي في كل صباح تناديني، لتسألني عما حدث البارحة، فأخبرها أن لا جديد قد حدث، بعض الملل ومسحة بسيطة من الأمل، وأناشدها ألا تسألني كيف اجتمع الاثنان.

أخبرها بأن البارحة قد فكرت بموضوع أكتبه، فنمت، ولم أتمكن من تحديد ما سأكتب، وأخبرها بأني لن أفكر في موضوع ما مسبقاً أبداً. وسأترك قلمي ينسج في صباح اليوم التالي ما يخطر ببالي، من دون سبق إصرار.

باتت الكتابة في كل صباح كخط من زخرفة أنقشه على صفحة أيامي، يخلّد لي هذه اللحظات بتفاصيلها، ولا بد سأتذكر كل مشهد من يومي هذا حين أقرأ ما كتبت بعد سنين.. وسأفكر: من هذا الأبله الذي يراسل ذاته كل يوم؟ ألم يدرِ أحد أنه مجنون وعليه أن يستطب عاجلاً؟ كم من المجانين أفلتتهم الطبيعة فأصبحوا أيقونات! وكم من العقلاء دفنتهم عقلانيتهم ففقدنا فرصة التجول في منطقهم!

أهرب من نفسي التي تضحك كثيراً إلى المعقد الذي "خربطته" سنين الحرب والعبور من السواد إلى اللالونية، ألفظ أول كلمة سأكتبها فينهمر القلم بنهم كجائع يلتهم الفكرة التهاماً ويقطف من مخيلته كل كلمة قد تدلّت. ودون أن أقرأ ما كتبت أغلق دفتري وأطمئن أن نفسي قد تلقت رسالة اليوم.

الكتابة هي للكثيرين مهنة، وللكثيرين هي مجرد أداة تعبر بهم نحو ضفة يريدوها، لكنها بالنسبة لي اعتراف، تداعٍ حر، كجلمود صخرٍ حط من عل أنهمر كاتباً كل ما اقترفته من ذنوب وأحاسيس، أعترف بأسماء من أكره، وأعترف باشتياقي للسجائر، وأعترف بالمأكولات التي تجبرني زوجتي على تناولها..

يعالج بعض الأطباء النفسيين مرضاهم بالكتابة، فعلى المريض أن يكتب ما يخطر بباله، وتُدرَس كتابات المريض ليتم تشخيص حالته، وأنا متأكد من حالتي الميؤوس منها إن قيّم طبيب كتاباتي، وسيراهن على عدم فهمه جملة واحدة مما أكتب، وسيمنعني عن الكتابة مجددا كي لا أرتكب مجازر لغوية مجدداً.

كان لي صديق في سورية يرسل لي كل فترة عدة أسطر من كتاباتي، فيسحرني إحساس الكاتب، وأرجوه ليعطيني اسم الكتاب الذي اقتطع منه هذه الكلمات، وبعد إلحاح يقول لي: إنها لك أيها الأبله، أنت من كتبها! فتذهلني الكلمات تلك أكثر، ماذا كنت أحيا لأكتب هذه الكلمات؟ لربما نسيت ما حدث، ولما كنت لأنسى لو لم أكتب هذه الكلمات.. فلقد كانت إفراغ شحنة المشهد الذي كنت أعيشه، كانت تداعياً حراً..

وحدث مرة أن نشرت قصيدة شعرية لي في بعض المواقع فعلق أحد القراء عليها: "إنها من روائع محمود درويش، ليته بقي على قيد الحياة وأتحفنا بالمزيد من القصائد"، فعلق آخر: "فعلاً إنها من روائعه، أذكر كيف ألقاها في إحدى أمسياته"! هم شاهدوا اسمي مرمياً بجانب عنوان القصيدة، لكن اسمي غير مرئي دائماً، من الطبيعي مجنون كصاحبه.. 

لا تحتاج منا الكتابة إلا إلى فسحة جنون نفتح فيها أبواب ذواتنا على مصراعيها، ونحلق نحو كل ما ترغبه أرواحنا، فلندع الحرف يأخذنا نحو اللاحدود، ولتكن مجنونة كلماتنا ومجنونة ألفاظنا، حينها سيخرج النسق من روح الحرف، وسيفرض النحو نفسه على المفردات، وستتشكل لوحة قد نشك بأنها من صنعنا إن قرأناها بعد سنين، كما أتنكر أنا لجنوني دائماً..

دلالات

074C0853-666C-4C08-B790-7BB0EE69C856
نور عجوم

كاتب صحافي... بدأت بالعمل الصحفي في سوريا ثم تابعت في عدد من الصحف الهولندية.