تختلف العواصم والقنّاص واحد

تختلف العواصم والقنّاص واحد

22 يونيو 2017
+ الخط -




من عاش تجربة الحرب على مدار 15 عاماً في لبنان، لا يمكنه أن يقرأ أو يرى ما يجري في سورية والعراق وفي اليمن أو ليبيا، إلا ويتخيل ما عايشه من قصف وعنف ومجازر وقتل على الهوية ونزوح وملاجئ وطوابير خبز وماء، والتي خرج منها حيّا بالصدفة.

تستحضر الذاكرة من جملة ما تستحضره أخبار القناصين، وأزيز رصاصاتهم، والرقع المعدنية المثقوبة والصدئة التي كتب عليها "انتبه قناص" عند مداخل بعض الشوارع وخطوط التماس الفاصلة بين المناطق المتحاربة آنذاك. وتنبش ما ركد في قعرها من أخبار متناقلة عنهم عبر سنوات الموت المفجع.

ذلك القناص الشبح، الذي نشعر بوجوده ولا نراه، قاتل جبان وصياد خاطف للأرواح. نتخيله مختلفا عن المقاتلين الذين نراهم في الشاحنات العسكرية وعلى الحواجز وفي الشوارع، بثيابهم المرقطة وجيوب سراويلهم الجانبية المنتفخة، والمدججين بالسلاح، وشعرهم المنكوش ولحاهم الكثة.

يزدهر وينشط عمل القناصين ويعيشون عصرهم الذهبي على أكثر من جبهة هذه الأيام. هم يتشاركون في جوهر مهمتهم المبنية على القتل، مهما اختلفت مهاراتهم.    

معروفة هي أماكن وجود القناصين عموماً، مناطق التماس بين المتحاربين، والمعابر بين المناطق. ولو طُلب من اللبنانيين أن يذكروا أماكن نشاط القناصين خلال سنوات الحرب اللبنانية، ولا سيما في العاصمة بيروت التي انقسمت إلى بيروتَيْن، فلن يختلفوا على أن أبرز المعابر التي كانت تفصل بيروت الغربية عن الشرقية معبر غاليري سمعان الشهير، ومعبر المتحف الذي يوازيه شهرة، ومنطقة السوديكو، إضافة للشوارع الرئيسية التي كانت الحدود الفاصلة بين المتحاربين.

كان يتحكم القناصون بحركة العابرين في النقاط الفاصلة بين المتحاربين، والتي تسمى بلغة الحرب "خطوط التماس". يتخفون في نقاط مشرفة وكاشفة للمنطقة المقابلة، ويتصيدون ضحاياهم كباراً وصغاراً، لا فرق، بهدف شل الحركة وبث الرعب وتسجيل انتصارات تحسب بارتفاع عدد قتلاهم.

خلال الحرب اللبنانية كان الناس يتداولون أخبار القناصين، قبل انتشار خدمات فيسبوك وواتسآب والفيديوهات التي توثق الكلمة والخبر. ونشط عمل القناصة منذ بدايات الحرب في لبنان، أي منذ حرب السنتين 1975 و1976. وكانت منطقة الأسواق التجارية، التي أصبحت تعرف بـ"داون تاون"، أحد المراتع الأساسية للقناصة الذين يتحكمون بحركتها في قلب العاصمة.  

أخبار كثيرة تناقلها الناس عن قناصي منطقة بئر حسن في بيروت "الغربية" على سبيل المثال، التي تتوسط منطقتي الكولا والسفارة الكويتية، الذي يعتبر أحد المداخل الجنوبية إلى بيروت الغربية خلال فترة الحرب العسكرية. أحدها أن شخصاً كان يعبر أحد الشوارع الرئيسية في بئر حسن، فالتجأ إلى حفرة كبيرة وسط الشارع أحدثتها إحدى القذائف ذات العيار الثقيل، هارباً من رصاصات أزت بقربه. ولأن المواطن اللبناني الذي بات خبيراً بيوميات الحرب وتفاصيلها، كان يعلم أن القناص لا يهدأ له بال إلا إذا اصطاد غلته اليومية من الناس، فاستقر العابر في الحفرة. استمر القنص حتى حلّ الظلام، لكن النوم داهم عابر السبيل ولم يستفق إلا مع بزوغ الفجر. أطل برأسه من الحفرة مستطلعاً، فاطمأن للهدوء المسيطر، وتملكته الشجاعة للخروج من حفرته، إلا أن القناص كان له بالمرصاد، وما إن رفع رأسه حتى أصابه بأنفه. 

أما قناص برج المرّ الشهير في منطقة وادي أبو جميل القريب من وسط بيروت، والذي كان يستهدف منطقة رأس النبع أيضاً في بيروت "الغربية"، أجبر السكان على إيجاد حلول بديلة عن المرور في الشوارع الأساسية والمكشوفة أمامه. وعمدوا إلى فتح فجوات في جدران الأبنية القريبة من بعضها تتيح لهم العبور الآمن. فالذاهب إلى الدكان أو الفرن أو حتى إلى المدرسة أو الوظيفة كان يتسلل عبر الفتحات المستحدثة في الأحياء الداخلية. فجوات متصلة صارت شريان الأحياء بدل طرقها، شكًلت ممرات آمنة أتاحت للناس تدبر يومياتهم بعيداً عن عيون القناص القاتل.

وإن كان من كلّف القناص بمهماته يقف خلف شرور الأخير وترويعه للناس، إلا أن أكثر ما كان يشغل اللبنانيين في أحاديثهم عن القناصين، هو كيفية احتساب عدد القتلى الذين أرداهم القناص عند نهاية ساعات دوامه، وكيف كان يتقاضى أجره. منهم من يقول إن كاميرا معلقة ببندقيته تلتقط صور الضحايا، والصور هي الإثبات على فعل القتل وإحصاء القتلى. ومنهم من يرجح أن الحساب يكون على عدد الطلقات التي تخرج من بندقيته، وهؤلاء من الفئة التي لم تكن مسألة الكاميرا تقنعهم ويعتبرونها ضرباً من الخيال، وتطوراً لا مكان له في زواريب بيروت وشوارعها في تلك الأيام.

أخبار القناصين في لبنان يكتب عنها مجلدات، ولا أظن أن تلك الشخصية الحاضرة بشرّها في الحرب يمكنها أن تلقى تعاطفاً. 

انقسم اللبنانيون خلال الحرب، في البدء بين يمين ويسار، ثم أمعنت الزعامات والطوائف في شرذمتهم، لذلك كان من يجد نفسه منحازاً لطرف ضد آخر لأسباب وقناعات ما، يعتبر أن الطرف الآخر هو "العدو"، المتمثل أمامه بشعار ومقاتلين وزعماء وموالين، فصورة "العدو" البغيض كانت واضحة. على عكس القناص الذي كان قاتلاً ملتبس الانتماء، فالمنطقة التي يمترس فيها ليست محددًا حاسما لانتمائه. فالقناص ربما يكون مأجوراً لا ولاء له، لا يقتل العدو على الجبهة، بل يكتفي بقنص المدنيين الأبرياء.

الأخبار المتناقلة شفهيًا، ومع غياب الصورة وتصريح صاحب العلاقة لوسائل الإعلام تترك الخبر ضبابياً وربما فضفاضاً، يتسع لأشكال المبالغة، والتضخيم وربما الاختلاق من أصله.

هي حال من يعيش الحروب، ولا بد أن هناك عائلات عراقية وسورية ويمنية وليبية، وناس يتجمعون في أي رقعة في العالم عاشت أو تعيش حرباً، يتبادلون آخر الأخبار التي وصلتهم عن قناص يروّع سكان منطقتهم أو حيّهم، يعدّون ضحاياه، وربما لا ينتبهون إلى أن في ناحيتهم أيضاً يوجد قناص يرعب أهالي المنطقة المقابلة، ويقتل سكانها.

دلالات

61B986DE-2650-44DE-86DA-74469348610B
سهى أبو شقرا

صحافية وكاتبة.. بدأت تجربتها في لبنان، ثم تنقلت بين الكويت والإمارات وقطر. عملت في إعداد البرامج التلفزيونية والإذاعية، ومنها برامج الأطفال.