مؤانسات رمضانية (11) أوهام الأدباء العاطلين عن الإبداع

مؤانسات رمضانية (11) أوهام الأدباء العاطلين عن الإبداع

16 يونيو 2017
+ الخط -
لم أكن أتوقع أن يتطرق الحديث في أي واحد من جلسات السمر الرمضانية إلى مسألة معقدة كمسألة "الوهم والحقيقة". ولكن هذا الأمر حصل، على النحو الآتي: قال أبو البهاء إنه ذهب اليوم إلى حلب للاطمئنان على أخيه عبد الرزاق، وهنالك اضطر أن يرافقه إلى الطبيب ليأخذ منه الجواب الأخير حول حالته.

قال الحاج مصطفى: ما به؟

قال: تبين أن جسمه سليم تماماً، الأعضاء والغدد والعضلات والعظام وكل شيء على ما نحب ونشتهي. وزيادة في الاطمئنان لم يترك نوعاً من التحاليل والتصاوير والأشعة والإيكوجراف إلا وأجراه، وكل ذلك لأنه توهم أن قشرة بزر (لب) عالقة بسقف حلقه. وأما الجواب النهائي للطبيب فكان غريباً جداً، فقد قال له بالحرف: عليك أن تكون حكيم نفسك، وتنسى نهائياً هذا الإحساس، ففي سقف حلقك لا يوجد أي شيء على الإطلاق.


قال أبو النور: الكاتب المتميز حسن صقر كتب قصة بعنوان (الأشباح)، تتحدث عن طبيب نفساني وزوجته المختصة بالأدب الإنكليزي، يشتريان منزلاً يشاع عنه أنه مسكون بالأرواح أو الأشباح، وهما يستخفان بهذا الكلام طبعاً باعتباره (كلام جاهلين).. بيد أن الإحساس بوهم الأشياء المجهولة لا يمكن انتزاعُه بسهولة، وبالأخص في المجتمعات الشرقية، ولذلك تتفاعل القضية بين الزوج والزوجة ويتصادمان، وينكش كل منهما تاريخ الآخر وماضيه، وأخيراً (يجن) الطبيب النفساني ويحتاج إلى من يطببه ويعالجه نفسياً!

قلت: هذا الكلام جميل، وأنا شخصياً كتبت ذات يوم قصة بعنوان (صوب المقام) يدخل مضمونُها في سياق حديثنا عن الوهم، إنها تحكي عن سائق شاحنة من مدينة إدلب، فقير يعاني من قلة الشغل وضغط الطلبات المقدمة من العيال، وفجأة يُطلب منه تحميل كمية عشرين طناً من الحديد من مدينة طرطوس الساحلية إلى إدلب. ولكن المشكلة التي تعترضه هي أن سيارته لا تحمل سوى ثلاثة عشر طناً، والحمولة الزائدة لا بد وأن تؤذي السيارة، أو ربما تتعطل على الطريق فيخسر الحمولة وأجرة الحمولة.

وللعلم، فإنه يوجد (مقام ولي) إلى اليسار من الطريق الواصل ما بين إدلب وطرطوس، والسائق الذي نتحدث عنه يعتقد بكرامة الولي الصالح المدفون في هذا المكان، مع أن الروايات المختلفة التي يتناقلها الناس تؤكد بأنه لا يوجد هنا ولي صالح ولا ما يحزنون، وإنما بَنى هذا القبر الوهمي شخصٌ نصاب، وأشاع بين الناس أن التقرب إليه بالنذور يشفي العلل، ويزيل العثرات، ويعمل من المعجزات ما لا يخطر ببال.

المهم أن السائق اشترى 6 أمتار من القماش الأخضر، وفي طريقه إلى طرطوس زين بها الضريح، وطلب من صاحب المقام أن يعينه على إيصال الحمولة من طرطوس إلى إدلب بالسلامة. وفي طريق العودة بالشاحنة المحملة فوق طاقتها بالحديد، مشت الأمور على ما يرام، حتى وصل قريباً جداً من ضريح الولي المزعوم، فمالت، وكوعت وشخرت وانطفأت وما عاد فيها شيء يشتغل! فماذا فعل؟ غضب من الولي غضباً شديداً، ونزل من السيارة حاملاً بيده بلطة قاطعة، وشرع يمزق الغطاء الأخضر الجميل الذي زين به المقام إرباً إرباً، عقوبة له على تقصيره في إيصاله مع الحمل الثقيل بالسلامة.

ضحك الأصدقاء السامرون، وهم أبو نزار بتسلم الحديث، ولكنني قطعت عليه الطريق قائلاً: أعطيكم دوراً في الحديث ليلتين قادمتين إذا سمحتم لي أن أحدثكم عن الأديب الذي (توهم) بأنه مهم.

قال أبو نزار: هذه هي العادة، فالأساتذة الفهمانون حينما يريدون أن ينفثوا عن الأفكار التي تعتمل في ذواتهم يحتاجون إلى سَمّيعة، ونحن هل يطلع بيدنا أي شيء غير أن نكون سميعة لهم؟ (وخاطبني قائلاً): شرف!

قلت: لا يوجد صوص (كتكوت) ابن يوم في بلادنا لا يعرف مَن هم الكتاب الكبار، ومن هم الكتاب المتوسطون والسخيفون الذين لا قيمة لهم على الإطلاق. وأنتم تعلمون أن بعض النقاد يهتمون بالسير الشخصية للكتاب الكبار، فيؤلفون عنهم كتباً تفيد القارئ في أنها تعطيه فكرة موسعة عن هذا الأديب.

وقد ألف أحدُهم كتاباً عن الأديب الكبير عبد المعين الملوحي، ونشره، وعلى إثر ذلك حصلت القصة العجيبة التالية:

كاتب متوسط المستوى، تربطه بمؤلف الكتاب صداقة حميمة، فما إن رأى كتابه عن الملوحي حتى ذهب إليه معاتباً، قائلاً:
- غريبة منك، حتى الآن لم تؤلف كتاباً عني!

فاحمر وجه الباحث، وتأتأ وفأفأ وقال له: بسيطة، أن شاء الله كتابي القادم سيكون عنك!
ففرح الرجل، وذهب إلى البيت، واستخرج كتبه وأرشيفه، وحملها وعاد إلى الباحث، وكومها في خلقته قائلاً: بإمكانك أن تبدأ من هذه اللحظة!

وخرج من عنده وجاء إلي رأساً وهو يقول: خطيب، ما رأيك أن ننوع الكتاب فتشارك فيه أنت بمحور دعنا نسميه (الملامح الإنسانية في أدبي) مثلاً؟!

(يعود تاريخ هذه الحكايات إلى ما قبل ربع قرن من الزمان)
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...