مَوَّال في حضرة حافظ الأسد

مَوَّال في حضرة حافظ الأسد

07 مايو 2017
+ الخط -

لم يكن أحدٌ من المواطنين السوريين يدخل إلى القصر الجمهوري أيام حافظ الأسد إلا بأمره، أو إذنه، أو موافقته. وعلى الرغم من عدائه الشديد للأديان، وبالأخص الدين الإسلامي؛ فقد كان يستضيف في المناسبات الدينية، خاصة في ليلة السابع والعشرين من رمضان، لفيفاً من رجال الدين على مائدة الإفطار.

ولدى وصول وفود المشايخ من المحافظات إلى القصر، كان رجال الأمن يفتشونهم تفتيشاً صارماً، ثم يحيلونهم إلى رجال المراسم الذين يشرحون لهم الطريقة المثلى لمقابلة الرئيس أثناء الدخول، ثم أثناء التوديع، ويُفهمونهم أنه لا يجوز أن يمسك الضيفُ بيد الرئيس طويلاً عند المصافحة، أو أن يقول له شيئاً خاصاً، أو أن يطلب منه شيئاً ما، ويجب ألا تتجاوز المدة الزمنية المخصصة لكل واحد خمسَ عشرة ثانية.

وفي مرة من المرات؛ وبينما كان الأسد يودع وفدَ محافظة إدلب، في قاعة مراسم الوداع، رفع عضو الوفد الحاج عبدو يده إلى أذنه، وفتح فمه على مصراعيه، وصاح موالاً سبعاوياً يتضمن مديحاً بلا حدود لهذا الرئيس (اللقطة) الذي ظفرت به سورية في غفلة من الزمان، ويجب عليها، أي سورية، أن تتمسك به، ولا تفلته من يدها مهما طال الزمان وكلف الأمر.

وكان حافظ الأسد، كما تعلمون، يعشق المديح، لذلك استطرفَ الموقف، واندمج فيه، وبمجرد ما تحرك رجال المراسم من أماكنهم، لإجبار الحاج عبدو على "سد بوزه"، أوعز إليهم أن يتركوه وشأنه. وحينما انتهى الحاج عبدو من صياح آخر خانة من الموال، مد يدَه مصافحاً إياه، وهنأه على رخامة صوته (مع أنه جعاري للغاية!)، وعلى براعته في تأليف المواويل السبعاوية، وتنعّمه بالصحة والوجه الوضاء رغم وقوفه في عتبة السبعين من العمر... والحاج عبدو‏ مشقرق، فرحان، يكاد لا يصدق هذا العز الذي بلغه.

فلما سأله الأسد إن كان له طلب خاص، قال: أي نعم سيدي، لدي طلب واحد، هو أن تزورني في بيتي.

ابتسم حافظ الأسد وقال له: أتشرف.

اعتباراً من هذه اللحظة التاريخية أصبح لقب الحاج عبدو: "الحاج أتشرف". ذلك أنه، بعدما عاد إلى البلد، روى حكايته للناس مع الرئيس عشرات المرات، إفرادياً وجماعياً، وكان يؤكد لهم في خاتمة الرواية، كل مرة، أن الرئيس قبِل الدعوة، وقال له: أتشرف.

وذهب ‏"الحاج أتشرف"‏ إلى محل الدهانات، فاشترى عشرة سطول دهان زياتي، مع رطلين من الجبصين، وتعاقد مع معلم دَهَّان مصيوت على ضرب جدران الدار بزومين دهان على الناشف، مع ترميم الثقوب التي أحدثها الزمن في الجدران. فلما انتهى منها أصبح شغله الشاغل اصطحاب أصدقائه إلى الدار ليسألهم رأيهم فيما إذا كانت قد أصبحت تليق بمقام السيد الرئيس حافظ الأسد الذي قال له حينما دعاه للزيارة: أتشرف.

كان بعضهم يُشفقون عليه، ويخشون من تكبده المزيد من النفقات فيقولون له: أي نعم. صارت ممتازة... وأما بعضهم الآخر فكانوا يمازحونه، ويصنعون له المقالب، لأجل الضحك والتسلية، وهذا ما جعل الحاج خيرو ينفرد به جانباً ويشرح له أن الرئيس لا يمكن أن ينزل فوق سطح الدار بالهليوكبتر، ولن يأتي راكباً طرطورة ذات ثلاث عجلات حتى يدخل في زواريب هذه الحارة القديمة بحرية، إنه يأتي ضمن رتل سيارات مراسم لها أول وليس لها آخر، وبالتالي، إذا كنت جاداً في استقباله يجب أن تكون دارك على المحلق، حيث تمر سيارات المراسم والحرس بسهولة.

باع "الحاج أتشرف" الدار، وباع فوقها كرم الزيتون، والحير، والجفتلك، والحاكورة، واشترى أرضاً معدة للبناء على المحلق، وبناها على ذوقه، معتمداً على استشارات الحاج خيرو وبعض المقربين الذين كانوا يرسمون له احتمالات دخول الرئيس، وجلوسه، ومغادرته... دواليك حتى انتهى من تشطيبها... ووقتها حصل أمرٌ غريب. لا شك أنه قد حصل بفعل فاعل. فبينما كان يتمشى أمام الدار، ومعه الحاج خيرو، إذ وصلهما صوت مؤذن جامع شعيب يقول: سبحان مَن تفرد بالبقاء، سبحان من تعزز بالكبرياء، سبحان من كتب على عباده الموت.

قال الحاج خيرو: سبحانه وتعالى. يا ترى مين مات؟

تابع المؤذن يقول: أخوكم بالله الحاج عبدو.. الملقب "الحاج أتشرف" انتقل من الدنيا الفانية إلى الآخرة.

الأمر الغريب الآخر الذي حصل، هو أن الحاج أتشرف، مات بعد يومين من هذه المزحة.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...