مؤانسات رمضانية (3) ديوان رَدْح ولوم وتقريع

مؤانسات رمضانية (3) ديوان رَدْح ولوم وتقريع

30 مايو 2017
+ الخط -
من عادة الناس أنهم كلما صادفوا إنساناً مختصاً بفرع من الفروع العلمية يستغلون وجوده، فيمطرونه وابلاً من الأسئلة المتعلقة باختصاصه، وذلك إرواء للفضول المعرفي الموجود لدى الجميع ولكن بنسب متفاوتة.

ولكن هذا الأمر يكاد ينحصر بأصحاب الاختصاصات الهامة كالأطباء والمحامين والراصدين الجويـين، أضف إلى ذلك رجال السياسة والفنانين، وبالأخص نجوم التلفزيون، فهؤلاء وجودهم يشبه السحر أو المغناطيس. وأما نحن الأدباء، فحظنا قليل من هذه الناحية، إذ قلما يهتم بوجودنا أحد في المجالس العامة، هذا إذا لم يعاملونا بالشفقة باعتبار أن الأدب لا يطعم خبزاً.

ولكن وجود صديقنا الشاعر، أبو إبراهيم الطبنجه جي، في جلسة السمر هذه جعل التطرق إلى مسألة الأدب أمراً مفروغاً منه، وكان هو أول من تحدث فقال: نحن الأدباء على العموم أناس مصابون بأمراض نفسية، هذا إذا لم نقل "لوثات عقلية"، ولكيلا أبعد المثال أقول، إن صديقنا خطيب بدلة، مثلاً، لديه ميول عدوانية، ولذلك تراه اختص بالأدب الساخر. فالسخرية، في الأساس، موقف عدواني، بدليل أنها تكتب غالباً بأسلوب هجومي، ولهجة حادة، جارحة. قلت له:

- مشكلتك هي التعجل بإطلاق الأحكام على الناس يا أبا البر. ففي رأيي، إن السخرية بالدرجة الأولى تمثل حالة الدفاع عن النفس، وليس الهجوم والعدوان.
قال: براهينك؟
قلت: أعرضها عليك حالاً، ولكن بشرط أن تصبر علي، فنحن العرب عندما نتحدث لا نذهب إلى هدفنا مباشرة، بل (نُكَوِّع) ونروح ونجيء بطريقة الزيك زاك حتى نصل أخيراً، إذا وصلنا!
وقلت: كان الدكتور غسان الرفاعي يقول، إنه يتقن ثلاث لغات دفعة واحدة: الإنكليزية والفرنسيـة والإدلبية! ولعل مَنْ يتفكر بهذه المسألة سوف يجد فيها وجهة نظر صائبة بالرغم من جانب الدعابة الجميل الذي يحكمها. فاللهجة الإدلبية التي سماها تجاوزاً (لغة) فيها استخدامات على قدر كبير من الغرابة والطرافة فـي آن واحد. خذ مثلاً كلمة (ديوان) الفارسية الأصل، وتعني (مكتب)، بدليل أنهم كانوا يقولون على زمـان الأتـراك (ديوان الوالي) وتعني الآن (أمانة سر المحافظ).

وتستخدم الكلمة في عالم الثقافة بمعنى كتاب أو سجل، كقولهم "الشعر ديــوانُ العرب"، أي حافظ تاريخهم وأمجادهم. وفي دول الخليج يستخدمون كلمة ديوانية بمعنى "المضافة"، وأما في إدلب، وهنا مربط الفرس، فكلمة ديوان تعني بالحرف الواحد (وصلة رَدْح ولوم وتقريع!)، فلا تعدم امرأة تحكي لصديقتها عما جرى بينها وبين امرأة ثالثة قائلة: عملت لها ديوان من كعب الدست!

ومشكلتك أنت يا أبا إبراهيم، هي أنك ما تزال تعتقد أن مقولة "الشعر ديوان العرب" قد جرى تمديدها، بنجاح عظيم، ألفيةً ثالثة! فطبعت ديوانك الشعري الأول على حسابك، مع أنني نصحتك ألا تفعل ذلك حتى ولو بقيت العمر كله من دون "ديوان". وحكيت لك حكاية الشاعر الذي كان يجلس في مقهى البرازيل في الخمسينيات، وأقنعته شلة "خود عليك" بطباعة ديوانه على حسابه، فطبعه، وأحضر الألف نسخة إلى البيت وكومها في المطبخ، وصار يأخذ منها نسخاً للمكتبات، وينتظر حتى تأتيه المبيعــات بالفرج. ولكن تبين أن السوق باردة إلى حد أنه أخذت تباع كل ثلاثة أشهر نسخة واحدة!.. دواليك حتى طفح الكيل مع زوجته فخرجت إليه ذات يوم مولولة قائلة: (لله وللرسول خذ هذه الكراكيب التي لا عمل لها غير جلب الصراصير من هنا!)
ولقد استفاد الأديب الكبير، حسيب كيالي، من هذه المفارقة بين المعنيين العام والإدلبي لكلمة "ديوان" في الحكاية المعبرة التالية:
قال حسيب، إن صديقاً له حدثه عن فتاة في مقتبل العمر لم تكتفِ بجمالها وفتوتها بل أحبت أن تكون شاعرة أيضاً، على الرغم من أنها لا تجيد الإملاء، ولا تعرف شيئاً عن العَروض والزحافات والموسيقى والإيقاعات. وقد أصدرت ديواناً متعوباً بائساً وأهدته نسخة لكي يقرأها ويعطيها رأيه النقدي فيه. ههنا أومض الجانب الساخر في شخصية الأستاذ حسيب فسأل صديقه قائلاً: قرأت الديوان، ولم تعمل لها ديوان؟ (يعني ردح وتقريع)!
قلت لصديقي الشاعر: وفوق هذا تتهمني بالهجوم والعدوانية يا أبا إبراهيم؟ حسناً، ألم تهد إلي ديوانك منذ شهرين؟
قال: بلى.
قلت: ومع ذلك أنا قرأت (الديوان) ولم أعمل لك (ديوان)!

(يعود تاريخ هذه الحكايات إلى ما قبل ربع قرن من الزمان)

دلالات

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...