بين خطابين تاه التاريخ

بين خطابين تاه التاريخ

26 مايو 2017
+ الخط -
بعد لقاء دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو في القدس، أثارت كلمات المؤتمر حفيظة التاريخ، وحركت من جديد جرح كنعان الغافي، بفعل زهايمر السياسة وخرف الحضارة.

من صالة ما يسمى المتحف الإسرائيلي يطل علينا ترامب ونتنياهو ليفتحا التاريخ بصورة مقلوبة؛ كانت بدايتها من هذه الصالة كإشارة إلى التحدث بلغة الوجود وقدم التكوين الإسرائيلي على هذه الأرض. 

يتحدث نتنياهو واثقاً بالتزوير التاريخي، الذي غزا أسفار التوراة بعد سبي بابل، حين تم اقتيادهم كأسرى وسجنهم في أزقة بابل. ويذهب أبعد من ذلك أمام وسائل الإعلام العربية والدولية بقصد سياسي واضح التشهير، ليدّعي أن ما تسمى الأمة الإسرائيلية موجودة على هذه الأرض منذ حوالي 4000 سنة، ناسياً بقصد أنهم أتوا لاجئين إليها هرباً من طغيان فرعون، فتاه بهم التاريخ، ليعيدوا نسجه لاحقاً وفقاً لرغبات الشهوة والتزوير، مستخدمين من أجل ذلك كل ما ملكت أيمانهم من نساء لإبرام أول وعد يعطي لهم الحق في العودة والاستيطان في أرض فلسطين، وكان ذلك في عهد قورش الفارسي، الذي وقع متيماً بفتنة استير صاحبة السفر الأطول والأكذب في أسفار اليهودية السياسية.

يتحدث نتنياهو بلغة الواثق من حتمية التاريخ وانصياعه لأهواء السياسة القذرة، التي لطّخت وجهه ومعالم جسده بأخبار الكهنة والتلفيق، وكأن المشاهد للمؤتمر أمام برومو شفهي لفيلم يتحدث عن التاريخ التائه في زوايا الكون، بخطاب أشبه بالسرد التاريخي لتأكيد معالم الاستيطان بالقوة والدعاية، والإعلان على أرض كنعان.

خطاب لاقى صداه في أذن ترامب، الذي افتتح كلماته مشيداً بمكان المؤتمر، أي المتحف الإسرائيلي، بقوله إن هذا المكان هو اختصار للتاريخ الذي تنبثق منه معالم الإنسانية والديمقراطية للعالم أجمع، لتكتمل الصورة التائهة للتاريخ الكنعاني في خضم أقل من ساعة من لقاء يتابعه العالم أجمع. 

ولكن التاريخ في الضفة الأخرى، غاب قصداً بفعل الزهايمر والخيانة. التقى ترامب محمود عباس، وكان حديث الأخير بعيداً عن صيغ التاريخ وقيم الحضارة، وأرجوان كنعان الدافق بصورة سرمدية في تضاريس الأرض، حديث تاه فيه التاريخ بفعل الضعف والخيبات، واكتفى بطلب فتات بائس من خبز التسوية.

ففي كلمته أمام ضيفه الأميركي، لم يتحدث عباس عن تاريخ فلسطين القديم، وعن امتداد جذور الأمة الكنعانية الموجودة منذ حوالي سنة  4000 ق.م، أي قبل لجوء قوم موسى بحوالي ألفين وخمسمائة سنة، ولكنه غيّب التاريخ من خطابه البائس كصورته.

بفعل القصد الخبيث، أو اللاقصد المتغابي، أطبق عباس بكلتا يديه على فم التاريخ، وأسكت صوته، وأمر باعتقاله في غياهب التسوية، وزجه في قيود المفاوضات الطويلة الأمد، فتاه التاريخ يبحث عن حريته الغائبة، بفعل التزوير والتلفيق الكهنوتي اليهودي، في الزمن الغابر، وبين سلطوية العمل الفلسطيني وخرفنة لسياسة الفلسطينية.

خطابان تاه فيهما التاريخ، وأسدلا الستارة عن تساؤلات الحقيقة الغائبة.

يصرّ الجانب الإسرائيلي، في كل محافله الدولية، على استحضار التاريخ بصورته التلمودية، وزجه في كلام السياسة وأطر الصراع، بينما يصر الجانب الفلسطيني، بكل تياراته، سواء الرسمية والفصائلية، على تغييب التاريخ الحقيقي أمام الشعب وأمام المحافل الدولية، وإبعاده عن أطر الصراع كافة، وكأن الطرفين اجتمعا على إدخال التاريخ في غيبوبة دائمة داخل أروقة السياسة، في حين يصر التاريخ على نقاء الحقيقة بصورة أكبر من ترهات التسوية الصغيرة، يكتم التاريخ غيظه في داخله، ويزأر في صمته مرابطا على هذه الأرض التي كانت ولا تزال تسمى أرض كنعان.

دلالات

185FFD08-8AEA-430A-8BDC-187856A0D061
185FFD08-8AEA-430A-8BDC-187856A0D061
مصعب محمد عيسى

كاتب وناشط فلسطيني من مخيمات سورية اقيم حاليا في بلجيكا

مصعب محمد عيسى