عندما كان حمدين مرشحي المفضل

عندما كان حمدين مرشحي المفضل

13 مايو 2017
+ الخط -
خلعت الثورة حسني مبارك، وسلّمت نفسها للمجلس العسكري، ثم وقفت في الميادين تنادي محمد البرادعي، يخوض بها، وعنها، سباق الانتخابات الرئاسية، لينقذها من الخطف.

كانت الثورة تتأهب للاحتفال بعيدها الأول في يناير/ كانون الثاني 2012، وتصورت أن البرادعي سيقدم لها الهدية المنتظرة، في اليوم الموعود، الخامس والعشرين من الشهر. غير أن البرادعي جاءها مبكراً بقرار صادم: إعلان الانسحاب من سباق الانتخابات الرئاسية، بعد أسابيع معدودة من إعلان ترشحه.

في ذلك اليوم، تلقّيتُ اتّصالاً من مكتب البرادعي، يدعوني للقاء عاجل بتلك البناية الفارهة بمنطقة "غاردن سيتي"، في الطريق انهالت الاتصالات: هل صحيح البرادعي انسحب؟ صدمني السؤال، وظننت أنَّها تسريبة من المتربّصين بالثورة، وكان ردي أنني في الطريق لاجتماع بمقر حملته، ولا أظن أن الرجل سينسحب. بل ربما يكون اللقاء التشاوري مع مجموعة من الإعلاميين والسياسيين بهدف الاستعداد للمعركة.

وصلت إلى المقر، كان هناك عدد كبير من رموز السياسة والصحافة، كان الوجوم بادياً على معظمنا، وما إن بدأ البرادعي الحديث، مستعرضاً الموقف، حتى كانت المواقع الإلكترونية تنشر بيان الانسحاب منسوباً لمكتبه.


أخذ الرجل يشرح أبعاد الموقف وتعقيدات اللحظة السياسية، وفي النهاية قال: "أردت أن أشرككم في اتخاذ قرار بالانسحاب".

اعتبرت أن هذه طريقة مهينة، فليس من اللائق تسريب إعلان القرار قبل مناقشة جدواه من عدمها مع من تعتبرهم شركاء وأصدقاء، ورأيت دموعاً محبوسة في أعين زملاء وزميلات، وعلامات سخط وانكسار، لكن الكل اتفق على ابتلاع الإهانة، بل ومحاولة تبريرها إعلاميّاً، بمن فيهم صاحب هذه السطور، إذ كتبت وقتها "ويقينا، فإنّ قرار البرادعي بنفض يديه من هذه المهزلة، قد أصاب قطّاعاً هائلاً من محبيه ومؤيدي أفكاره بنوع من الإحباط وخيبة الأمل، وهو ما يفرض عليه التقدم بحزمة تعويضات للذين أودعوا كل مدخراتهم من أحلام التغيير الحقيقي في شخصه ومشروعه الفكري والسياسي. بمعنى أن يكون ابتعاده عن معركة انتخابات الرئاسة اقتراباً واشتباكاً أكثر في المعركة الأهم، وهي استكمال هذه الثورة، وإنقاذها من سيناريوهات التفكيك والبعثرة والإجهاض".

كانت هذه الحزمة من التعويضات في رأيي، لملمة قوى الثورة المبعثرة في تنظيم سياسي، حزب قصدت، ومن هنا كانت فكرة الحزب الذي أعلن فيما بعد، باسم "الدستور" بعد مقاومة عنيفة من البرادعي للفكرة، وهذه قصة أخرى، سأدونها لاحقاً.

عندما بدأ الترشح رسمياً لانتخابات الرئاسة، طرح الأخوان اسم خيرت الشاطر، وطرحت الدولة العميقة اسم رئيس مخابرات مبارك، الجنرال عمر سليمان، بالإضافة إلى كل من حمدين صباحي وعمرو موسى ومحمد سليم العوا وعبد المنعم أبو الفتوح وهشام البسطويسي وحازم صلاح أبو اسماعيل وخالد علي.. ثم قررت لجنة الانتخابات استبعاد الشاطر وعمر سليمان وأبو اسماعيل.


وهنا قرر "الإخوان" الدفع بـمحمد مرسي، ودفعت الثورة المضادة بأحمد شفيق، فأعلنت وقتها أن حمدين صباحي هو الأقرب لروح الثورة، مع الاحترام لمرسي وللعوا وأبو الفتوح والبسطويسي وأبو اسماعيل وخالد علي، ولم أخف تأييدي له، ولم يمنعني من حضور مؤتمره الانتخابي الذي دعيت إليه، سوى المبيت في مقر نقابة الصحافيين، مضرباً عن الطعام، وسط شباب الثورة، للمطالبة بمحاسبة المتسببين في إراقة دماء المعتصمين بميدان العباسية، في واحدة من مجازر المجلس العسكري.

كان حمدين لا يزال محتفظاً ببعض ملامح الصورة القديمة، المناضل الناصري الشاب، المعتز دوماً بعروبته وهويته الحضارية الإسلامية، المنفتح على كل التيارات الوطنية، المتحالف مع الإسلاميين في انتخابات البرلمان، من دون قطيعة مع القوى المدنية.

ولما أسفرت الجولة الأولى عن إخفاق حمدين وأبو الفتوح، وبقي مرسي وشفيق في سباق الحسم، أعلنتُ "مرسي وإن كان بطعم العلقم"، ودعوت قوى الثورة، كافة، للاحتشاد خلفه، وكتبت "في لحظة حالكة السواد، مثل التي نمرُّ بها الآن، نحن مضطرون للوقوف خلف محمد مرسي فى جولة الإعادة، وإلا سنحترق جميعاً في أفران الغاز التي هددنا بها متحدث باسم الجنرالات يوماً".

في ذلك الوقت، خرجت أصوات تطالب محمد مرسي و"الإخوان" بالانسحاب من السباق، لمصلحة حمدين، وكان ذلك في رأيي مطلباً شديد الحمق، وغير عادل وغير إنساني بالمرة، ناهيك عن أنه غير قانوني، ويحمل احتقاراً هائلاً للديمقراطية وللثورة، التي كنت ومازلت أرى أن مكسبنا اليتيم منها كان تلمس الطريق إلى صندوق الانتخاب، بالمعنى الحقيقي والنزيه، في تاريخ المصريين.
غير أن تلك كانت اللحظة التي أصابت حمدين والبرادعي، وآخرين ممن اعتبرناهم رموزاً ثورية، بلوثة، دفعتهم في النهاية للتضحية بالثورة، وتسليمها، مفروشة، لألدّ أعدائها وخصومها، والإعلان، صراحة، عن تحالف مع قوى الثورة المضادة، أسفر عن جريمة خداع الجماهير في الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013، وما رافقها وما تلاها من مذابح عنصرية وجرائم قتل على الهوية، نفض محمد البرادعي يديه منها، مبكراً، فيما واصل حمدين صباحي رحلة الصعود إلى الهاوية.

وائل قنديل
وائل قنديل
صحافي وكاتب مصري، من أسرة "العربي الجديد". يعرّف بنفسه: مسافر زاده حلم ثورة 25 يناير، بحثاً عن مصر المخطوفة من التاريخ والجغرافيا