نذكر ما نريد ونشتهي

نذكر ما نريد ونشتهي

07 ابريل 2017
+ الخط -
صعب أن تحفظ تقليد إحياء مناسبات "وطنية". رتيبة هي الطقوس والبيانات الخاصة بمناسباتنا، أصبحت جزءا من حالة مجتمعاتنا المثقلة بالتواريخ والأحداث التي نخصص لها أيام الاحتفاء أو الذكرى، حتى لو وقع الحدث اليوم نعرف أن مكانه على رف أو في درج المستقبل الذي لا يحرك فينا ساكناً، نُخرج مناسباتنا لنستعملها في مناسبات وجعها أكبر، تحديدا التي يكون قوامها الحنين والأمل أو الأسى، في الحنين إلى زمن تولى لنشعر بالأمل وبالتطلع إلى نافذة صغيرة يتسرب منها بعض الضوء، فنصطدم بسيطرة الظلام يتسرب للروح فيمتزج مع الأسى.

كل الشهور والأيام تحمل معاني لتواريخ محددة حفرت عميقاً في ذاكرة الأجيال، تواريخ وعد بلفور وقرار التقسيم أو النكبة ثم النكسة، عدا عن التواريخ والأحداث المفصلية حينها. أن تحيي ذكرى سقوط الشهداء أو انتفاضة يوم الأرض، أو معركة كانت فيها البطولة والشجاعة عنوانا لصد الجرائم، يوم الأسير ويوم الشهيد مع أيام المرأة والعمال، فإنك تقر بالعجز والضعف، وأصبحت كائناً ضعيفاً يهتم لحساسية إحياء المناسبات وإخراج المفكرة لتدوين الحدث القادم للذكرى.


ذاكرة أرهقتها المواجع لم تتسع سوى للكآبة. لن ينتهي المشهد عند حدود الذاكرة المحتفى بمناسباتها حين انقلب المشهد رأسا على عقب. تأبى المشاهد الدامية للذكريات السحيقة أن تبقى في الصدارة، ترجلت قليلاً لمئات أو آلاف الوقائع المندلقة أمام وجوهنا وعقولنا صاعدة إلى ذراها، تنفلت المناسبات من عقالها، من يمنح المحتل جرأته لإظهار وحشية أقل من الطاغية حين طغت جرائمه على الأرض والأسير والشهيد والمعذب والمهجر، كيف يقاس إحياء مناسبات الذود عن الأرض وأنت تتابع غرق آلاف البشر في قاع البحار، وملايين النازحين والمدن المدمرة والأجساد "المفتوكة"؟ يكون الاحتفاء بيوم الأرض امام المحتل "سخيفا"، ليس من المناسبة ذاتها بل في المفارقات المخزية كلها حين يرتاح المحتل من وطأة فعلته.

نعد أيام الفجائع، نقفز عن اليوم إلى أمس الأمس لنرتاح من وطأة الأخلاق والضمير، نلهج لوضع حد للاحتلال، لكن دورة الطغيان تقفل دورتها معه، لنشهد وقائع حرق الأرض لا مصادرتها، وقتل عشرات آلاف المعتقلين لا على تمجيد نضال الحركة الأسيرة، وعلى تهجير الملايين لا على جرائم المستوطنين، وعلى تدمير المساجد والكنائس لا على تهويدها ومنع الأذان بل قتل من يحتمي تحتها، نشكو محاباة المحتل ودعمه ونفاق المجتمع الدولي فنكتشف لوبيات قومجية لحماية السفاح توازي لوبيات المحتل، نذكر ما نريد ونشتهي ونخجل من انصهار الجثث والمدن بالبراميل المتفجرة، ونستحي من المقارنة بين سفاحين، فقط نذكر حبات الرمل وأسماء الشوارع والبيارات وطقوسنا الأولى ووشوشات الأماني.

ذاكرة بعيدة ندواي بها يوم الأرض والنكسة والنكبة ويوم الشهيد والأسير والمرأة والطفل، لكن من يذكر بقية الرواية ونصف المذبحة المستمرة. نازفة ذاكرتنا من ثقب يتسع لكل الأوجاع، البحار التي حملت اللاجئين مختلفة عن زوارق الموت والحافلات التي عبرت بهم إلى الحدود، مختلفة في لونها ومستقرها، لا "كواشين" للأرض مع اللاجئين، لا صور وماضي دفن تحت ركام القرى والمدن، لا صوت يأتي عبر الراديو "من فاطمة في مخيم عين الحلوة تهدي سلاما للأهل في ترشيحا وجنين"، اغتصبت ثم قتلت وحرقت مع جنينها وكل عائلتها.

الاحتفاء بالمناسبات تلك يأخذ شكلا بليغا من العلاقة التي تعبر عن حميمية الذاكرة، لكن فتورها القوي والمدوي يكف عن الجدوى بالشعور بالموقف الفعال والأخلاقي والإنساني ما لم يكن محمولاً على صدق المواجهة مع السفاح محتلاً كان، أو مختلاً ومجرماً بهيئة طاغية يوظف كل ذكرياتنا وتاريخنا بما يخدم أساطير المحتلين.

AF445510-4325-4418-8403-7DA0DAAF58C1
نزار السهلي
كاتب وصحافي فلسطيني مقيم في فرنسا يقول: طقسٌ رتيب في الرحيل وشقاء ولجوء، يعقبه حلم لا ينطفىء في زمن غير معلوم تحدده الإرادة العليا، هي ملامح سحنتي التي تشبه انتحاب اللاجئين في المُثل الواهمة.