هل أتاك حديث مجزرة الكاميرات؟

هل أتاك حديث مجزرة الكاميرات؟

06 ابريل 2017
+ الخط -
قرابة عشرين كاميرا تم سحقها تحت أرجل غاضبين في خان شيخون خلال اليومين الماضيين. خبر يثير الدهشة، إذ لماذا تكسر الضحية كاميرا جاءت لتوثّق مأساتها وتنقلها للعالم؟

لماذا يشعر أي ناشط مصوّر بالرعب وهو يحاول أخذ لقطة ما في أية مدينة محررة؟ هذا إن تجرّأ أصلاً على التصوير، لماذا يتحمّل المصور الإهانات والشتائم إن هو جرّب إشهار كاميرته أمام أية مجزرة؟

ثم لماذا تدعو –الآن- الفصائلُ الكبرى الإعلاميين الأجانب لزيارة الداخل وتوثيق جرائم الأسد؟

إن قضية عمل الإعلاميين في الداخل المحرر قضية إشكالية حقاً، وتستحق أكثر من هذه السطور المنفعلة، فالشعب الذي عاش عقوداً محكوماً بـ"منطقة عسكرية يُمنع الاقتراب والتصوير"، والشعب الذي كان بحاجة إلى إذن أمني لشراء تلفاز أو جهاز "دش"؛ وجد نفسه، منذ أول مظاهرة ضد نظام الأسد، أمام سلاح جديد هو كل ما يمكنه الانتصار به؛ الكاميرا!

اليوم الأول للثورة كانت كاميرات الموبايل أداة الثائرين الأوائل لتوثيق تظاهراتهم، هذه الكاميرات ضعضعت تماسك نظام الأسد، وكذّبت رواياته الزائفة، وعرّت جرائمه.

كيف حدث وفقدت الثورة سلاحها الأهم؟ كيف غدا هذا السلاح ملاحقاً خائفاً مطارداً، كيف غدا الإعلامي متهماً مشكوكاً في ولائه وإخلاصه؟

بدأ الأمر بمرحلتين متزامنتين، كانت الأولى هي الشائعات التي تحدثت عن تلقي المصورين آلاف الدولارات لقاء الصور التي يلتقطونها في ظل عوز عام راح يضرب المناطق الثائرة نتيجة توقف الأعمال وطرد الموظفين. كان أول من بدأ بتلك الشائعات هو إعلام الأسد نفسه، وسرعان ما وجدت هذه الدعوى طريقها إلى المناطق الثائرة. "آلاف الدولارات"، هكذا ببساطة كانت تُلقى تلك العبارة. كانت الحقيقة تكتشف في حال واحدة فقط، عندما يقتل الإعلامي أو الناشط في معركة ما أو قصف ما، فيكتشف الجميع مقدار الديون المتراكمة عليه، أو الفاقة التي تمر بها عائلته. ولكن ما نفع ذلك الاكتشاف حينها!

المرحلة الثانية، هي عندما بدأ الترويج إلى أن ما يصوره الناشطون يشكل مصدر معلومات لقوات الأسد، التي تقصف مناطق التجمّعات، ومناطق الفعاليات المدنية على وجه الخصوص. هذه النقطة تداركها الناشطون سريعاً. وباتت الفيديوهات المصورة تُلتقط من زوايا لا تمكّن متابعها من تحديد تفاصيل المكان، ثم إن إعادة تفعيل نظام الأسد لجيش مخبريه، وخصوصاً مع انتشار شبكات الإنترنت، كانت كفيلة بالتشكيك في هذه النقطة، ولكن من يستطيع جمع ماء مسكوب على رمال ساخنة؟ هكذا هي الشائعات في المناطق المحررة.

الصحافيون الأجانب لهم حكاية أخرى. إذ حتى نهاية 2013 تقريباً، كان وجود صحافي أو مراسل أجنبي في المناطق المحررة أمراً عادياً، وتغيّرت الصورة كلياً مع انتشار "داعش"، إذ بات الصحافي الأجنبي صيداً مفضلاً له، يقبض ثمنه ملايين الدولارات.

ولما طُرد "داعش" من مناطق إدلب وغربي حلب، لم تختلف الحال، إذ بقي الصحافيون الأجانب صيداً مفضلاً عند فصائل وهمية اعتاشت على السطو والخطف، وكان بعضها يبيع الصحافيين الأجانب لـ"داعش"، الذي كان يدفع بسخاء، وكثير من تلك الضحايا لم تنته صفقاته كما يجب، وانتهى مقطوع الرأس في إصدارات مرئية معروفة. ولم تقصّر كذلك التنظيمات الإسلامية الأخرى، في هذا المجال. كانت الحجة جاهز دائماً: خونة وعملاء!

شيئاً فشيئاً، باتت مناطق الثورة مناطق سوداء تماماً، لايعرف العالم عنها شيئاً، في حين كانت التنظيمات الإسلامية التي حرّمت هذه الأرض على الإعلام؛ تتبجح بكل وقاحة بعد كل مجزرة، ساخرة من الضمير العالمي الذي كنا نناشده، ودول العالم التي لا تنتفض لهول المجازر ومناظر أشلاء الأطفال.

المفاجأة كانت أثقل عندما كنا نشاهد قيادات هذه التنظيمات في مقابلات تلفزيونية، أو أفلام وثائقية لوسائل إعلام أجنبية، وهي تعرض أماكن يتحرّج الناشط الهاوي عن تصويرها، لما تقدمه من معلومات تضرّ بالمكان، وتشكل مصدر معلومات حقيقي للخصم.

سرعان ما انقلبنا على سلاحنا، وخسرناه. وبات إعلام الأسد هو المصدر الأكثر وصولاً للعالم الخارجي. في حين كان علينا أن نجاهد لنؤكد للعالم أننا نُقتل!



فإذا زعم الأسد أننا إرهابيون؛ فنحن إرهابيون، وعمليات الخطف والقتل التي تمّت باسمنا كفيلة بتأكيد ذلك. وإذا قال الأسد إن الإرهابيين هم من ضربوا الكيماوي على أنفسهم؛ فهم كذلك، في حين كان وجود صحافي أجنبي واحد في بث مباشر لوكالة عالمية قادراً على إيصال الصورة، وسحب كل الهراء عن الحاجة للتأكد والتحقق والتحليل والتشكيك.

اليوم تطلب الفصائل الكبرى من الإعلاميين الأجانب العودة، ولكن من سيغامر بروحه مصدقاً الوعود التي أثبتت التجارب السابقة أنها غير محترمة.

عشرون كاميرا سحقت في خان شيخون بحجج واهية؛ تصوير نساء، قبض دولارات، متاجرة بدم الناس. وقبلها بأيام قليلة طُرد عدد كبير من الناشطين حاولوا توثيق وصول مهجّري منطقة الوعر إلى ريف إدلب الجنوبي.

ولن يتسع المقام هنا للحديث عن عشرات الزملاء الذي فقدوا أو قتلوا، وأنا هنا لا أتحدث عمّن سقط برصاص الأسد أو في سجونه، بل عمّن سقط بأيدي من يدعي تمثيل الثورة ويطالب اليوم الصحافيين الأجانب بالدخول ونقل الحقيقة.

هؤلاء الذين اكتشفوا اليوم فجأة أهمية الكاميرا؛ عليهم قبل كل شيء أن يفرجوا عن الناشطين والصحافيين المعتقلين في أقبيتهم، حتى هذه اللحظة، وأن يتوقفوا عن التحريض والتشكيك بانتماء الإعلاميين وإخلاصهم ودينهم!

الصورة اليوم قاتمة جداً؛ فما زال المصور في الداخل متهماً بأنه يعيش على دم الضحايا والشهداء، ويقبض تلالاً من الدولارات عن كل صورة، وفي الوقت نفسه، يستمر الناس بشتم العالم الذي لا يرى معاناتنا... لا أعلم كيف سيراها ونحن نصرّ على سمل عيونه في كل مرة؟

دلالات