شاعر بلا قافية، الله يعطيه العافية

شاعر بلا قافية، الله يعطيه العافية

24 ابريل 2017
+ الخط -
صعد الشاعر إلى المنبر مستلاً قصائده. وقف لحظة  ينظر إلى الجمهور حتى ساد الصمت فيهم. قح وتنحنح، وشرع يقرأ. ظل يقرب فمه من مكبر الصوت ويؤخره حتى التقط المسافة المثلى التي تحافظ على الصوت جهورياً، رجراجاً، مؤثراً. حرك، أثناء الإلقاء، يديه ورأسَه، واضطر، أحياناً، إلى أن يذبل عينيه، ويزم شفتيه ويرخيهما لكي تخرج الحروف ملمعة، منمقة، مرشوشاً عليها الكثير من التوابل والمنكهات. كان يتوقف بين شطر وآخر ليتفحص وجوه الحاضرين وردود أفعالهم، فإنْ ما رآهم منسجمين، مسرورين، رفع وتيرة الإلقاء البديع فيهم، وهكذا حتى انتهى من إلقاء قصائده، وانتزع من أكفهم الكثير من التصفيق. 

وحينما نزل من على المنبر تلفت ذات اليمين وذات الشمال، ليتلقى تحيات الحاضرين. ولكنه لم يسمع منهم سوى عبارة: الله يعطيك العافية!

وانتهت الأمسية، وخرج الناس من قاعة المحاضرات وشرعوا يتحركون في الردهة، فدخل الشاعر بينهم، منتظراً أن يستوقفه أحد ويقول له: أعجبني المقطع الفلاني من قصيدتك، أو: لفت نظري المقطع العلاني. ولكنه، للأسف، لم يحصل على شيء من هذا القبيل.

ودخل الشاعر والمشاركون معه في الأمسية وبعض الجمهور المقرَّب ومدير المركز الثقافي إلى غرفة المدير لتناول كأس من الشاي. وهناك انتظر الشاعر أن يبادر أحد ما إلى إبداء إعجابه بشعره الذي ألقاه في الأمسية بشكل خاص، أو شعره بشكل عام، دون جدوى. ووقتها اندفع يخوض في حديث مطول ذم فيه الوضع الثقافي المتردي الذي أدى إلى كسل الجمهور، وقلة مبالاته تجاه الأدب والفن والشعـر العظيم. ودعا إلى نبذ الصوت الواحد في المجتمع، وإشاعة الحوار والرأي الآخر.. إلخ. 

ولأن هذا النوع من الكلام يدخل في باب الخطابات الإنشائية التي يحفظها الجمهور عن ظهر قلب، فقد انتقل الشاعر في حديثه إلى تقنيات الشعر وأدواته، وأشاد بالشعراء الفطاحل الذين يحذقون في صناعة الشعر، يعرفون بحوره وإيقاعاته ونغماته وأسراره وجوازاته وزحافاته وموسيقاه، وقال إن الذين أهانوا الشعر ومرغوا هيبته بالتراب هم أشباه الأميين الذين يلحَنون بلغة أجدادهم، ويجهلون صناعة الشعر، ويدعون إلى التساهل في لغة الأجداد العظـام.

حينما وصل في حديثه إلى هذه النقطة قال، وكأنه قد فطن إلى مسألة جوهرية، أن لغة أجدادنا تتعرض في هذه الأيام إلى مؤامرة دنيئة، تتجلى في الهجوم على الشعر ومحاولة تخريبه وإفلاته من أوزانه وقيوده وإيقاعاته وموسيقاه. وأضاف، أن الهجوم على الشعر إنما هو جزء لا يتجزأ من الهجمة الإمبريالية الرجعية العولمية التي تستهدف كيان الأمة وتراثها وفولكلورها وثرواتها الكبيرة... إلخ. 

ههنا رفع أحد الحاضرين يده مستأذناً بالكلام، وقال:

- غريب أمرك يا أستاذ. إنك مصر على أن تسمع منا ما نوينا نحن تجنيبك سماعه. هل تدري ماذا فعلت منذ انتهت الأمسية حتى الآن؟ إنك تدعو إلى الحوار الهادئ "الديمقراطي"، مستخدماً لغة الصوت الواحد والخطابات الإنشائية التي أمسينا نحفظها عن ظهر قلب. لقد بدأت بتمجيد اللغة والشعر المصاغ على الأوزان والبحـور، والغمز، كتحصيل حاصل، من قناة الشعر المتفلت من الأوزان والقوافي والموسيقى. حسناً، إنك تخوض الآن حرباً من غير خصوم. لماذا؟ لأنـه لا يوجد هنا من يماريك في شكل القصيدة التي تقدمها، عمودية، أم حرة، أم نثرية. ولكن أين الشعر؟ أنا شخصياً لستُ مثلك من دعاة تقديس اللغة والقوالب الشعرية الفراهيدية، وفي الوقت نفسه لست من دعاة العامية. ولكنني سأسألك أنت والحضور الكرام عما إذا كان ورد في شعرك الذي ألقيته في هذه الأمسية، أو شعرك الآخر المدون في دواوينـك المطبوعة، مقطع واحد يداني في مستواه أية صورة من أشعار الأخوين الرحباني التي غنتها فيروز باللغة المحكية...

ههنا وقف الشاعر وكأنه وجد الدريئة المناسبة لإلقاء آخر سهامه عليها وقال:

- ها ها.. الآن فهمت. لا بد أنك تقصد الأغاني التي غنتها فيروز من كلمات سعيد عقل، ذلك الرجل المخرب الذي دعا إلى هجر لغة أجدادنا وعادى قضيتنا المركزية قضية فلسطين...

قاطعه الرجل الآخر: لا لا، أنا عنيت القصائد التي كتبها عاصي ومنصور وجوزيف حرب وميشيل طراد. ما رأيك؟

فما كان من شاعرنا إلا أن خرج وضرب الباب بقوة. 

دلالات

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...