هذا هو الفاعل يا سيدي!

هذا هو الفاعل يا سيدي!

16 ابريل 2017
+ الخط -

انتهى الشيخ رضوان من خطبة الجمعة ثم بدأ بالدعاء للقيادة الحكيمة التي أغرقت البلاد في خيرات لا تعد ولا تحصى. وبما أن أهل قرية المحصورة يحفظون خطب الشيخ رضوان عن ظهر قلب، كانوا ينامون أثناء الخطبة ويكفيهم معرفة عنوانها فقط.

دخل نعيم اللواص مستعجلاً يتخطى الجموع حتى وصل إلى مختار القرية أبي دحام، وشوشه فنهض أبو دحام يتبعه نعيم اللواص ثم تبعهما المصلون جميعاً لمعرفة الأمر الخطير الذي دفع المختار للمغادرة بهذا الشكل.

وصل المختار إلى مدرسة القرية الوحيدة ووقف أمام لوحة التدشين الرخامية، وبدأ يقرأ: "برعاية السيد المحافظ شهلان الهزاع (طز)...." هزّ رأسه قائلاً: أستغفر الله العظيم. تقدّم قليلاً ليتفحّص الكتابة. لحس إصبعه ثم مسح على كلمة (طز) فتبيّن له أنها جديدة كتبت منذ وقت قصير، قدّره المختار بنصف ساعة تقريباً أو ربما ساعة وليس أكثر من ذلك. وهذا يعني أن المجرم قد استغلّ انشغال الناس بصلاة الجمعة وقام بجريمته الشنيعة.

انطلق على الفور للاتصال بالجهات المختصة بعد أن ترك نعيم اللواص حارساً على رخامة  التدشين، حتى لا يغير أحد تفاصيل الجريمة، ولتستنفر جميع الجهات المختصة في المحافظة وتنطلق باتجاه المحصورة للتحقيق فيها واكتشاف الفاعل.

طوقت سيارات الستيشن قرية المحصورة ودخلت أخرى بقيادة العميد مجدي لمعاينة مسرح الجريمة.

وقف العميد أمام اللوحة يتفحص بتمعنٍ الخط الذي كتبت به كلمة "طز"، ثم هز رأسه متوعداً الفاعل بأشد أنواع العقوبات. وبعد جلسة مع المختار دامت لمدة ساعة كاملة، أصدر أمراً بالتحقيق مع كل شخص لم يحضر صلاة الجمعة واعتباره هو الفاعل. حيث شكل لجنة تحقيق برئاسة المساعد جميل وعضوية المختار، للتحقيق ومعرفة من تغيّب من أهل المحصورة عن صلاة الجمعة.

انتشى الشيخ رضوان فرحاً فكل القرية تشهد بأنه كان يخطب الجمعة وهذا يؤكد براءته. والغائب الوحيد كان نعيم اللواص بحكم طبيعة عمله في حراسة الفرقة الحزبية في القرية. ولكن لا يشك أحد بولائه للقيادة على الإطلاق لأن تقاريره الأمنية تشهد بنشاطه المتميز على مستوى المحافظة. أما البقية فكان يتوجب على كل واحد منهم إحضار شاهدين على الأقل يؤكدان حضوره صلاة الجمعة أثناء ارتكاب الجريمة.

في تلك الأثناء كانت المحصورة مطوّقة من قبل عناصر الأمن لمنع هروب الفاعل. انتشر الخبر في القرى المجاورة وبدأت التحليلات حول دوافعه، حيث أكد أحدهم أن الحكومة أصدرت مرسوماً يعاقب كل من تخلف عن صلاة الجمعة، وذلك بعد الزيارة التي قام بها وزير دولة شقيقة إلى البلاد وتحسن العلاقات بين البلدين الشقيقين. بدأ الناس في قراهم يجهزون أنفسهم للتحقيق، مما أثار الرعب في جميع قرى المنطقة. وصلت الشائعات إلى قرية دير الناقوس ذات الأغلبية المسيحية مما جعل مختار القرية أبا طنوس يتّصل بالجهات العليا ليسألهم عمّا إذا كان يشملهم المرسوم أم لا.

انتهى التحقيق مساءً دون الوصول إلى أية نتيجة تدل على الفاعل، مما أربك المختار لأن العميد ينتظر النتيجة مع الفاعل خلال 24 ساعة.

فكر المختار كثيراً وهو يتمشى جيئة وذهاباً، إلى أن لمعت في رأسه فكرة تنجيه من الإحراج الذي وقع فيه، فصرخ بأعلى صوته:" عرفت الفاعل. إنه هو ولا أحد غيره". عاجله المساعد جميل بالسؤال: "من هو؟ أخبرني على الفور قبل أن يهرب. وسأربي به المنطقة بالكامل".

قال المختار محاولاً لفت انتباه المساعد إلى خلفية المتهم السياسية: "إنه الفتى حسان نهشل ابن أخ العميل مراد نهشل زعيم حزب (الفؤوس المشرعة) سابقاً، إنه هو ولا أحد غيره فأنا لم أره اليوم في صلاة الجمعة ولم يحضر للتحقيق. تناول المساعد جميل جهازه اللاسلكي وطلب من عناصر الدورية تجهيز السيارات والسلاح فوراً. ثم انطلقوا نحو منزل أم حسان.
 
لم يجرؤ أحد من أهل القرية أن يمطّ رقبته من النافذة ليرى السيارات التي تخترق صمت المحصورة بصوتها مسرعة في الطرقات، والكل يعرف أنها سيارات القوى الأمنية ولا يطمئن أحدهم إلا إذا عرف أنها تجاوزت منزله إلى المنزل الذي يليه.

وقفت السيارات أمام منزلٍ متواضع. قفز عناصر الأمن كالكلاب المسعورة التي تنقضّ على فريستها المكبّلة. وصلوا باب بيت الأرملة أم حسان التي توفي زوجها العام الماضي بمرض خبيث، لكن أقلّ خبثاً من المختار.

لم يجد العناصر صعوبة في خلع الباب ليدخلوا فوراً وقد تكوّرت البنات حول أمهنّ، فوطأ العناصر فوق الفرش الممدود ليحملوا حسان من فراشه ويسوقوه أمامهم إلى إحدى السيارات، رغم صرخات الأم وتوسل الأخوات التي لم تُجدِ نفعاً، فلا يوجد في الحي أو القرية أو الوطن من يجرؤ على إغاثة أم حسان أو حتى الحضور إلى بيتها لمشاهدة ما يجري.

بقيت الأم تولول وتصيح حتى غابت أضواء السيارات عن ناظريها قاصدة فرع الأمن في المحافظة.

وصلت السيارات مبنى فرع الأمن وترجل العناصر يسحبون الطفل حسان مكبلاً ليدخلوه إلى مكتب العميد الذي ينتظر بفارغ الصبر.

فُتح باب المكتب فدخل المختار والمساعد جميل، ومعهما فتىً في الحادية عشرة من عمره. وجهه الطفولي المعفّر بقذارات الزمن وتفاهاته ارتسم عليه خطان شاقوليان من الدموع التي ذرفها وهو يبكي، دون أن يعرف سبب إحضاره إلى هذا المكان الغريب المكتظّ بالوحوش البشريّة. قدماه العاريتان المتّسختان تلونتا ببعض البقع الحمراء إثر ضربة تلقاها من أحد العناصر الغاضبين، والخائفين على أمن الوطن المهدد من قبل هذا الطفل. سرواله المتّسخ المهترئ يسمح بظهور ركبتيه. يرتدي سترة مرقعة خيطُ ياقتها المفقودة يدل أنها كانت موجودة في يوم من الأيام.

يداه الصغيرتان المربوطتان إلى الخلف بقيودٍ جامعةٍ قاسية تختصر قساوة الأيام التي مرّ وسيمرّ بها. مطأطئ الرأس لا يجرؤ على النظر حوله. لأنّ الرحلة القصيرة التي قضاها معهم في السيارة علّمته أن كلّ حركة يقوم بها سيدفع ثمنها غالياً.

اقترب المختار من العميد تقدّم المنتصرين وقال: هذا هو الفاعل يا سيدي وقد توصلنا إليه بعد التحقيق العميق والدقيق. إنّه ابن أخ العميل مراد نهشل و...

هز العميد رأسه معبّراً عن امتنانه للمختار، ثم أمره بالانصراف كما أمر المساعد بأن يسوق المجرم الخطير إلى الزنزانة لمعرفة دوافعه وأهدافه السياسية، مع إجراء ما يلزم كالعادة.
 عاد المختار إلى المحصورة ليخبر أهلها في اليوم التالي عن خطورة ذلك الصبي واتصالاته المشبوهة بإسرائيل واجتماعاته المتكررة مع عميل صهيوني في قبرص. حاول جاهداً كي يتذكر اسم العميل لكنه نسيه للتوّ. قال إنه كان يقدّم لذلك العميل تقارير شهرية عن الأوضاع في البلاد، ناسياً أن الولد لا يجيد القراءة أو الكتابة لأنه كان يعمل في جمع الخردة ولم يسجل في المدرسة على الإطلاق.

دلالات

نور الدين الإسماعيل
نور الدين الإسماعيل
خريج كلية الآداب جامعة حلب قسم اللغة العربية. يكتب الشعر والقصة القصيرة الساخرة والمسلسلات الإذاعية الساخرة لراديو فريش المحلي. كتب سيناريو فيلم قصير "المارد" قام بأداء الأدوار فيه مجموعة من الشباب الموهوبين في الداخل السوري. يقول: "عاطل عن الأمل"