عن صديقتي الـ"فيمينيست" المزعجة

عن صديقتي الـ"فيمينيست" المزعجة

08 مارس 2017
+ الخط -
تعلمتُ من وقت، أن أتعامل مع قضايا حقوق المرأة بتذمّر، باعتبارها مصدراً لوجع الرأس لا أكثر. لا أعرف من أين جاءتني هذه القناعة، لكنها كانت راسخة في ذهني. في الحقيقة لم أكن ذكورياً، أو على الأقل لم أتعمد أن أكون كذلك، لكن شعوراً عميقاً بالكراهية تجاه هذا النوع من الحوار كان موجوداً.

في أحد مساقات الجامعة، كانت إحدى القراءات المطلوبة منا عن موقع النساء الفلسطينيات أثناء النكبة وبعدها. وكان في الدراسة ادعاء رئيسي، أن وضع النساء تحسن نتيجة انهيار صورة الرجل المهزوم بعد التهجير، وتحوله مع خسارة الأرض إلى عاطل عن العمل، ودخول المرأة إلى العمل مكانه. قرأت وجن جنوني. قلت إن حبيباتنا "الفيمينست" يسخرن من هزيمتنا، ويستثمرن فيها.

ربما لم يخطر على بالي، وأنا أجلس فاتحاً رجليّ كما يفعل الذكور المنتصرون، أنها هزيمتهن هن أيضاً. فأنا الرجل، صاحب الهزائم وصاحب الانتصارات. وهذه قضيتي!

 شكتني المحاضرة لرئيس البرنامج، وقالت إنني ذكوري. كانت ربما أطرف تهمة تقدمها معلمة عن طالب في تاريخ الجامعة.

 في عام 2014، التقيت بشاعرة سورية، وكنت تواقاً للقاء أي سوري، ولم أكن التقيت بأي منهم قبل ذلك، وكنت أريد أن أعرف أكثر عن الحدث الذي غير حياتي، الثورة في سورية. عن الوقت الذي حول كل قصصنا عن الثورات والثوار إلى أشياء حقيقية وملموسة. فأنا من جيل سمع عن الثورة ولم يرها.

بعد أن أنهت ورقتها في المؤتمر، عن مسارات الأدب السوري أثناء الثورة، تحدثت معها حول ما يجري هناك، وكان كلامها كل مرة ينجر إلى موقع المرأة السورية من الحدث. ما أزعجني أنها كانت ترى المرأة السورية مسطرة لتقييم كل نتائج الحراك القائم، ولتقييم صدق شعارات الثوار. هؤلاء ليسوا ثواراً لأن مواقفهم من المرأة رجعية، لا يمكن أن يكون هؤلاء تقدميين لأن مواقفم من المرأة كذا، إلخ.

وبالرغم من كونها قد تحملت لسنوات طويلة، إلى جانب كثيرات وكثيرين، بطش النظام، إلا أن شعوراً عندي طغى بأنها غير جديرة بالحديث عن الثورة، وأنني أكثر جدارة منها في ذلك. اعتقدت أولها أن سبب شعوري، هو لأن علاقتي مع ما يحدث في سورية علاقة خاصة؛ أعلق علم الثورة في غرفتي من اللحظة الأولى، وأتسمر أمام الأحداث على التلفاز لساعات، وأحفظ أغاني الثورة كلها. أنا سوري أكثر من أولئك الذين ينشغلون عن أهداف الثورة الكبرى بقضايا تافهة. كانت كلها مبررات مضحكة طبعاً. اكتشفت بعدها أن شعوري بأنني أحق منها بالحديث عن الثورة، وإن كانت سورية وأنا فلسطيني، لأنني ذكر ببساطة، ولأنها أنثى.

اعتبرت وقتها، أن حظي سيئ، لأنني مرزوق دائماً بصديقات أو زميلات أو معلمات نسويات. وجدت نفسي مضطراً لدخول حوارات لم أنتبه لها يوماً ولم آخذها على محمل الجد. قبل فترة، عادت إحدى زميلات الجامعة من السفر، وصرنا أصدقاء. التقينا أكثر من مرة بعد غياب طويل. كان أي حوار سخيف أحتاج إليه بعد يوم دراسة طويل معها، يتحول إلى حديث عن المساواة والجنسانية والتمييز. لم أتحمل طريقة تواصلنا، كنت أشعرها عقاباً جاء من مكان ما قصي، وصرت أتذكر الأخطاء التي ارتكبتها في حياتي حتى أستحق هذا العقاب. شعرت أن في العلاقة عبئاً لا يحتمل، وحاولت التخلص منه. كانت ترى جميع مشاكل العالم مرتبطة بحقوق النساء، وكانت ترى المساواة حلاً وجودياً لكل القضايا العالقة في العالم: الاستعمار والإمبريالية والفقر والتلوث وثقب الأوزون.

أما أنا، فكان عندي شعور دائم، أن هناك قضايا كبرى أسمى من حقوق النساء و"هبلهن"، لا مكان لنقاش عن مثل هذه القضايا عندما نتحدث عن الصراع العربي الإسرائيلي مثلاً، أو عن ثورات الربيع العربي المجيدة. كنت أتخيل دائماً أن هناك أشياء أهم. مرة عندما كنت منفعلاً في الحديث عن شبيحة النظام السوري واليسار، مع مشرفتي على رسالة الماجستير، تحدثت مطولاً عن أن أصحاب الأفكار الكبرى لا يرون الناس. يمكن لهم ألا ينتبهوا لدماء آلاف وهم مستغرقون في الحديث عن المقاومة والمؤامرة والأهداف الاستراتيجية. أما أستاذتي فنبهتني من دون قصد إلى أنني أمارس الأشياء نفسها وإن بطريقة مختلفة. فأنا لا أرى آلاف الجرائم اليومية، الصغيرة والكبيرة، بحق النساء، عندما أتحدث عن أفكاري الكبرى أيضاً.


فهمت بعد وقت طويل، أن الحقوق متصلة فعلاً، وأنها لا يمكن أن تنفصل. فهمت أن حقنا في الحرية من الاستعمار، وحق الشعب السوري في التحرر من الاستبداد، وحق صديقتي الفيمينيست المزعجة في المساواة، تسير في خط واحد ومتسق.

إلى صديقتي المزعجة، التي لا تكف عن توبيخي، وإلى معلمتي التي قالت عني محقة إنني ذكوري، وإلى مشرفتي على رسالة الماجستير، التي تحلم بيوم الانتصار العظيم على الرجال. إلى زميلاتي في الجامعة والعمل، إلى قريباتي: شكراً صادقة على "النق الدائم" و"الإزعاج المتواصل" للذكور الأسياد الذين يتربعون في دواخلنا. ويجلسون وأرجلهم مفتوحة على الأغلب!