أخطأ عبد القادر عبد اللي بحقنا جميعاً

أخطأ عبد القادر عبد اللي بحقنا جميعاً

06 مارس 2017
+ الخط -

أجل، أخطأ المرحوم، عبد القادر عبداللي، الذي رحل قبل أيام غريباً في تركيا عن عمر ناهز ثمانين كتاباً، و50 لوحة تشكيلية ونيفاً، وألف مقالة صحافية، وأخطأ من كان جسراً لنقل الثقافة التركية للعرب، بشكل لا يمكن تعويضه بعد فجيعتنا برحيله المبكر.

كيف أخطأ وبحق الجميع؟

سأقولُ لكم، لم يكن المترجم الأشهر عن التركية، سامحه الله، دنيوياً للحد الذي ظلم نفسه وأهله ومحبيه، بل وترك الكثير من حقوقه، بسبب انصرافه إلى ما هو أكبر وأدوم وأكثر خلوداً.

لم يسع عبد القادر يوماً للتعريف بنفسه أو تسويقها، بل ولم يلاحق إصداراته والترويج لها، بل ويصمت في غالب الأحايين رغم ضرورة الكلام، ووضع جلّ الأمور بنصابها، بواقع الادعاء والمدعين ومتسلّقي الثقافة الساعين للضوء، وهم كفارغات السنابل.

وربما ما ناله عبد القادر خلال مرضه ووفاته، يوازي إن لم نقل يزيد، عن كل ما قيل وكتب عنه وفيه خلال سنواته الستين ومسيرته الإبداعية الممتدة لأربعة عقود، فمن له كما إرث عبد اللي، من كتب ودراسات وأبحاث ولوحات تشكيلية، بل ولقاء رؤساء ومثقفين وأعلام عالميين، ورغم كل ما للمرحوم، كانت بساطته وإنسانيّته تدفعانه للصمت في أي محفل أو مجلس، يتنطّع خلاله الصغار.

وإن تكلم، فكان ليقدم بسخاء حاتمي، كل ما لديه من معلومات وأفكار، للحد الذي كان "تحفة حية ومكتبة متنقلة" تثري كل من يقلب صفحاتها، ودون حمد أو شكور.

أجل، أخطأ، لأنّه تعامل بترفُّع ورفعة أكثر مما يفهم عالمنا المكسو بالذئاب، تعامل بغيرية للحد الذي أوقع نفسه وأسرته ومحبيه، بكثير من الورطات، وتعاطى بكرم لدرجة تبديد وربما سرقة حقوقه.

سألته، أخيراً، رحمه الله، وأنا من يلازمه منذ نحو ربع قرن، لماذا لا تتقدم للمسابقات والمحافل الدولية، وأنت من لديه من نتاج يوصله للقمم دونما منافس. أجاب بما يمكن فهم شخصية هذه القامة السورية النادرة، يا عدنان تكريمي وقت كان حسيب كيالي يرسل لي عبر البريد، مقالاتي وقصصي من دبي، مذيلة بمدائح وإطراء، تكريمي وقت خصني عزيز نيسين بترجمة أعماله وخصني أورهان باموق بترجمة رواياته، فهل أسعى إلى أكثر من هكذا تكريم.

ربما يكون عبد القادر على حق، ولكن في مجتمع سليم معافى، وليس كما الذي نعيش، وإلا من يشرح لي كيف لم تمنح تركيا التي سوّقها عبد اللي، ربما أكثر من وزارات خارجيتها وسياحتها وتعليمها العالي وثقافتها للعالم العربي، له الجنسية، وهو المترجم عن أدبها ومسرحها وسياستها وأعلامها، نحو 80 كتاباً، بل وأدخل مجتمعها إلى غرف نوم العالم العربي، وقت ترجم أول عمل درامي للعربية "نور" وتابع بـ"وادي الذئاب" وهكذا عشرات الأعمال الدرامية والسينمائية.

ومن يقرِّب إلى عقلي الموجوع، عدم حضور السوريين والأتراك تشييع عبد اللي، وهو من القامات السورية الثقافية ربما النادرة بزماننا الرخو.

إذاً، أخطأ عبد اللي لأنه تعاطى بما فيه، من أدب وإنسانية وقيم، ولم يتعاط وفق ما يجب مع واقع يدفع للعلم درهماً وللترويج ألف دينار.

وأذكر أننا تكلمنا بهذا الجانب مراراً، وكان يقنعني على الدوام، وإن أحدثتُ بسلوكياته بعض التغيير، فأنا من أقنعه بالكتابة بعد الثورة وألححت، بل وألزمته مراراً على التصريحات الصحافية، قبل أن يقتنع وتتهافت عليه الدوريات والوسائل الإعلامية، لتستقطب قلماً متخصصاً قلما يتكرر.

زادت أوجاعي وتخطيئي للراحل عبد اللي، مذ أصابه السرطان وعاد للتعامل وفق ميراثه وقناعاته، عاد للصمت والتنازل عن حقوقه، إذ رفض مطالبة الحكومة التركية بشيء أو المعارضة السورية، بل وحتى الأصدقاء، رغم أنه صاحب يد بيضاء وفضل على الجميع.

من نافل القول ربما، الإشارة إلى ما قدمه عبد اللي، للثقافتين التركية والعربية، لأن الجميع كتب عنه بعد وفاته، في حين قلما كتب عنه أحد وأنصفه قبل مرضه. وهنا، كما أسلفت، يتحمل، رحمه الله، جزءاً وفيراً من الوزر، بسبب صمته وتعاليه على الصغائر وانشغاله بالإبداع والمفيد وما سيترك لورثته من نتاج فكري وصدى سمعة وأخلاق.

خسرت سورية قامة ثقافية كبيرة برحيل عبد القادر عبد اللي، وخسرنا نحن صديقا وفياً وحكماً عادلاً كنا نلجأ إليه وقت تعترينا المصائب أو تستفحل بيننا الخلافات.