نزوح عن التفلسف

نزوح عن التفلسف

20 مارس 2017
+ الخط -
تبدلات جذريّة طاولت ما اعتبِر مُتكئاً ثقافيّاً وفكريّاً خلال العقود الماضية. انقلب المشهد كلياً عقب اندلاع الثورة السورية قبل ستة أعوام، فبدلاً من أن يشكل الانخراط الفكري والثقافي محطة اعتبار لكل النظريات والطروحات التي بُشر بها التناقض مع الاستبداد والظلم لإقامة الحريات ودولة المواطنة. كانت النتيجة، أنّه في وجه الثورة السورية ظهرت آثار ضربات وطعنات كبرى وارتدادات لا حصر لها، عصفت بأكاذيب وشعارات "التناقض" التي بشرت بها مقومات وحوامل الثقافة "الوطنية" و"القومية" بما فيها الثورية على امتداد تلاوينها الفكرية.

فإذا كان المثقف، نظرياً، مدافعاً عن قضايا مجتمعه وقيمه وحامي ذاكرته، فإنّه يمكن أن يكون نقيضاً لصورته المفترضة كما هو رائج اليوم، حاملاً معول هدم الذاكرة، ومشاركاً في تدميرها.

استدعت تلك التبدلات إظهار العجز الثقافي والأيديولوجي والاعتماد على وسائل وأدوات "المؤامرة"، وتحليل نظريات منقلبة على الجمهور المقهور والجماهير الغاضبة. فلم يعد الشارع والطليعة الثورية والجماهيرية إلا أدوات زائفة وعابرة في أدبيات تكدَّست وتكلَّست، لا تعبر الشخوص في الرواية عن رأي الراوي ولا شطر الشعر عن موقف الشاعر أو الشارع، ولا نظرية الفيلسوف تصلح "لهكذا مجتمعات".

الثّورة لم تنضُج بعد على أهواء النخب، فلا "الماديّة التاريخيّة" ولا "التحليل الطبقي"، لهما شأن عند وصولهما لتناول الثورة السورية ليغدو التنوير والتثوير والعقل والحداثة، مفردات دلاليّة في سياقِ حشوها بأدوات إنتاج أصحابها، الأبراج العاجيَّةُ العفِنة استحوذَت على كلّ إنتاجها بصكّ البراءة من الثقافة، وادعاءاتها المنتهية إلى شريحة مختلفة تماماً عن الجبهات المشتعلة بأجساد الضحايا.

في مثل هذه المنعطفات التاريخية للثورة السورية، يتراجع وينزلق دور المتكآت الثقافية التي عُوِّل عليها في تطلعات الشارع العربي عموماً، والسوري على وجه الخصوص، وفي تشكل محور مضاد متماثل تماماً مع تناقضه من الاستبداد والطغيان إلى مرحلة التحالف معه ودعمه.

حتى بات التوصيف الأصلب المتشكّل من انهيار تلك الثقافة، يحملُ الاسم الصريح للعار. أحد أبرز استخلاصات الثورة السورية يكمن في جملة مفادها: "لا يكفي الاستناد إلى أحقية عدالة قضيتك كي تظفر بالحرية والعدالة والديمقراطية لأنها جميعاً نقاط بدء، وأن مستلزمات التخلص من الاستبداد والقضاء على الطاغية، تكمن في العمل من أجل تلك القضية، وما يدفعه السوريون من أثمان لتلك القضية، أفرز ثقافة هددت التكلس والكساد والإنكار الذي أصاب النخب المتحالفة مع الطغيان".

الفسخ الهجين الذي أصاب نخبة ثقافية وفكرية وسياسية في الربيع العربي، وفي نسخته السورية، سيبقى جزءاً لا يتجزأ من الثمن الباهظ الذي يدفعه السوريون في خذلان النخب المفترضة. لكنه سقوط عظيم وانحلال يهضم كل الأدبيات والمفردات المنجذبة مغناطيسياً  للطاغية.

نزح السوريون عن "التفلسف" ولجؤوا إلى مسارحهم الخاصة، في بنش وكفر نبل وحلفايا ودرعا وحلب وحمص. كانت يافطاتهم مِنصَّات لأفكارهم ومفاهيمهم التي تعادل ما أنتج من الثقافة المهترئة منذ قرن مضى. لتصبح إعلان مبادئ أخلاقي وإنسانيّ وثقافيّ يشدُون به. لم يعد يعنيهم من الثقافة سوى التراكم الوجداني للأشياء المعاشة في زمن الثورة، أمّا الدهاليز والمستنقعات الثقافيّة التي تنعش جلادهم ستبقى مظلمة وجافة. سجَّل السوريُّون تفوُّقهم في ثقافة الحرية والكرامة والعزم على إسقاط الطاغية، كل الثقافة المبنيَّة على فذلكات وتنظيرات واستعارات لا تشير لإسقاط الأسد لا تعنيهم. وكل شعر ورواية وأدب ثوري يقفز عن حريتهم لا يعنيهم بتاتاً. نزحنا مع السوريون عن كل "المبادئ" الأممية المتحولة لعبودية "القائد" والمؤمنة بنظرية المؤامرة، لا بنظرية الإنسان وحريته.

AF445510-4325-4418-8403-7DA0DAAF58C1
نزار السهلي
كاتب وصحافي فلسطيني مقيم في فرنسا يقول: طقسٌ رتيب في الرحيل وشقاء ولجوء، يعقبه حلم لا ينطفىء في زمن غير معلوم تحدده الإرادة العليا، هي ملامح سحنتي التي تشبه انتحاب اللاجئين في المُثل الواهمة.