وحش الخوف في دولة الديكتاتور

وحش الخوف في دولة الديكتاتور

07 ديسمبر 2017
+ الخط -
لم تكن ريبةً ما نالت من نفسي آنَ التحقت بخدمة العلم الإلزامية في سورية آنَ بلوغي الثامنة عشرة، إذ لم تكن من حلول ترفع برأسها آنذاك، بل حتى اللحظة هذه في أن يهرب المرء داخل الدولة السرية تلك من الدخول في عالم الجيش السري الذي كان يُعاد إثرهُ تركيبة الشاب السوري على الإطلاق.

إذاً، لم تك ريبةً حقاً، إذ التحقتُ بـ"خدمة العلم" كما كان متداولاً في سورية آنذاك، بل، ربما التداول هو ذاته الآن، ليس في مقدوري البحث عن صفة الإقدام على هذا الفعل اللحظة هذه، لا سيما أن المرادفات التي تخدم الفعل ذاك قد تحوّرت وتاهت ما بين لغات عديدة إثر الثورة السورية، لغات كالفارسية والروسية والانكليزية. إذاً، تحول ذاك الفعل الإلزامي إلى أممي.

التحقتُ بخدمة العلم الإلزامية في سورية بعد خمسة أيام من موت حافظ الأسد الذي كان بمثابة حلم، كنا نحن الشعب، نقرص أيدينا آنذاك فنزيل الستارة المجهولة التي كانت تفصل ما بين الحلم واليقظة، كان الفعل ذاك أيضاً منصباً في سبيل الوصول إلى الحقيقة، الحقيقة وحسب، الحقيقة المفضية إلى أسئلة لامتناهية، هل هو ميت، أم أننا نحلم؟ كان هذا التساؤل جمعياً راود كافة الناس في الآونة تلك.


كادت وقتها الأسئلة تقضم عقلي، أسئلة لامتناهية موثوقة بسريرة كائن ولد في دولة كانت تعبد كائناً، مخلوقاً بشرياً، أسئلة سيطرت على ذهني وجسدي، الأمر مرتبط بفكرة السيطرة الروحية والمادية، أسئلة نتاج ذهن شاب يافع مات الكائن الذي كان معروفاً بأنه يدير كل التفاصيل في البلد الذي ولد فيه وترعرع وتحوّل فيه إلى شاب التحق بعد ذلك بالقوات المسلحة لأسباب مجهولة نفسياً ومعلومةً ظاهرياً.

في اليوم الأول من وصولي حيث الكتيبة الدخانية في مدينة دمشق، كان لا بد لنا من إبداء الولاء للرئيس الجديد الذي سوف يحكمنا للسنوات القادمة، لم أفكر آنها بأمور خرافية مثل الديمقراطية وغيرها. انتابتني السعادة آنها، وصلتُ كغيري من أبناء ذاك البلد المريب إلى فكرة عصية على الفهم ألا وهي، سيكون هناك رئيس يحكمنا بعد موت حافظ الأسد، لن نكون هكذا بدون مرياع يرشدنا إلى حيواتنا، أو حياتنا الجمعية، خاصة، نحن هو الشعب الذي لم ير ذاته خارج توصيفية المرياع الكبير المتوفى، نحن هو الشعب الذي يبحث عن السلسلة المفقودة فيصلحها بيده، أصلحنا السلسلة تلك بأيدينا فننجوا بذاكرتنا الجمعية من وحش الضياع، أي ضياع؟ ما هو مفهوم الضياع؟ أسأل نفسي الآن ضمن ذاك الزمن المجهول، الزمن الذي أنهى حيواتنا الآن، ترى، كيف من الممكن أن يكون الزمن عدو المرء الخالد؟

عشرات من جنودٍ أغرار أدخَلنا صوت الضابط في رتلٍ طويلٍ هرولنا مراراً في حركةٍ دائرية حول ساحة الكتيبة يتقدمنا شاب عاري الصدر مكتظٌّ جسده المعلوم للمهرولين بالدماء حاملاً سكيناً ضخمةً كان يهمُّ بها إثر كل شعار على جسدهِ إلى أن تحوّل إلى كتلةٍ حمراء إثر الدم الذي كان يتهاطل من جسده، كان ذاك الشاب مرياعُنا نحن الجنود الأغرار صوب فكرة الولاء التام للرئيس الجديد بشار الأسد ابن الرئيس الميت حديثاً، كان الشاب ذاك وقودنا السري والخفي إلى ما وصلنا إليه الآن.

بعد الهرولة مرات عديدة حول الساحة المريبة أدخلنا الضباط واحداً تلو الآخر حيث غرفة صغيرة كانت مجهولة لي آنها، صارت معلومةً إلى أن جاء دوري فأدخلوني إياها، كان الرجال داخلها يبعثون في النفس الريبة، سرعان ما أمسك أحدهم بيدي اليمنى رافعاً ومزيحاً أبهامي عن خط أصابعي المستقيم، غرس فيه دبوساً معبئّأً بدماء الذين سبقوني دخولاً هنا، انتظرَ خروج الدم منه، فوضعه على ورقة بيضاء، إذ قال لي: "بصمتَ بالدم للرئيس بشار الأسد"، ومن ثم أخرجوني من الغرفة تلك وأولجوا فيها جندياً آخر كان على خط انتظار ريبته من الغرفة تلك.

إذاً، تحوّل وتحوّر مفهوم الدم في تلك الحقبة العصية على النسيان، بل، وخرَج من سياقه المعرفي المعلوم، صار كلّ جندي مرآة الآخر في تلك القطعة العسكرية المنفصلة عن قطع عسكرية مكتظة بعوالم مماثلة لعالمنا السري والخفي، تحولنا - عبر الدبوس ذاك - إلى جندي واحد، جندي يرى الخارج عبر ملامح الضابط الكبير - حارسِ الرئيس الجديد على بوابة خوفنا، ويسمع الخارج عبر خطابات ذاك الضابط عينه. عملياً كان الضابط ذاك بمثابة النافذة التي نرى ونسمع عبرها ما يجري في الخارج، لا سيما أن كافة الوسائل الأخرى كانت غير موجودة، مثل التلفزيون والراديو، يوماً بعد آخر اعتدنا على الرئيس الجديد الذي لم نره قط ولم نسمع صوته يوماً، كما لو أنه شبح. فكرت لوهلة في معادلة مريبة، هي كيف من المكن أن يُغَذى العقل الباطني على اسم امرئ بعيد لا نراه ولا نسمعه؟ كيف تحولت فكرة الرئيس من حالة سياسية إلى مفهوم ماورائي؟

كان في كل ركن وكل مكان على كامل الأرض السورية آنها، ثمة حارس يحمي الرئيس الجديد في عقول الناس الموضوعة، كانت سجوناً لامرئية، الحارس، شبيه الضابط ذاك، مرآة بشار الأسد السرية التي كنا نرى فيها إلى وحش الخوف في عيوننا.