ليرحمنا مَنْ في السماء

ليرحمنا مَنْ في السماء

06 ديسمبر 2017
+ الخط -
"اللهم أنت الله، لا إله إلا أنت الغني، ونحن الفقراء، أنزِلْ علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغاً إلى حين".. هكذا كان رسولنا الكريم محمد، صلى الله عليه وسلم، يدعو الله، رافعاً يديه إلى السماء من أجل طلب نزول الغيث.

اليوم، ونحن في شهر ديسمبر/ كانون الأول 2017، ما زالت الأمطار قليلة في بلدي المغرب، وتكاد تكون شبه منعدمة في بعض المناطق، ونسبة امتلاء السدود والفرشات المائية حرجة.

في وطني الكل يتساءل: متى ينزل الغيث؟! كنا نرجو أن يكون ذلك في بداية فصل الخريف، أمَا ونحن مقبلون على فصل الشتاء، ولم نستقبِل بعد المطر، فما الذي حصل؟ وما الذي أخَّر قدومه؟!... سؤال يُراود كل مغربي، كيفما كان موقعه، وخاصة الفلاحين منهم.

في الواقع، الجواب عن هذا السؤال يستلزم الرجوع إلى أنفسنا لمعرفة علاقتنا بربنا، ثم علاقتنا بالناس. إن الدارس لهاتين العلاقتين يجد أن الوضع لا يُبشّر بخير.. فأمَّا علاقتنا بالله، فهي متقلبة تقلبَ أحوال الطقس؛ فبالرغم من محاولاتنا للتقرب من الله، إلاَّ أنَّ مشاغل الدنيا وملاهيها سرعان ما تقذف بنا بعيداً إلى عالم مجهول يسوده القلق، وانشغال البال؛ فنُبدِّل، عن وعي أو عن لاوعي، النفيس بالرخيص، والنور بالظلام، والتقوى بالعصيان؛ فيبقى حالنا على ما هو عليه إلى غاية أن نُبتلى بمكروه؛ فنرجع إلى طريق النور.. فإن ذهب عنا الكرب، عدنا من جديد إلى العصيان.


أما حالنا مع العباد فحدِّثْ ولا حرج.. أرحام قُطِعت، دماءٌ سُفكت في سبيل المال، حرمات انتهكت، وعقود مزِّقت. الربا أصبح تجارة، والزنا حرية، وعقوق الوالدين حداثة، وأكل مال اليتيم ذكاء، ونفاق المسؤولين للمواطنين سياسة، والكذب عادة، وشهادة الزور خدمة، والسرقة خبرة، البعض منَّا يتبجَّح بفهمه عقيدة التوحيد، ولكنك لا تكاد ترى أثر ذلك على أخلاقه، أما الأغلبية فلا أخلاق ولاعقيدة لها..

هذا فضلاً عن أنَّ الأسرة والمدرسة والإعلامَ مؤسسات لم تعد تربّي النشء على مكارم الأخلاق؛ فيلتحق الأطفال والشبان بعالمهم الجديد، الذي يغيب فيه العدل والقانون، ويسودُه بالمقابل، قانون الغاب "القوي يأكل الضعيف".

إننا نعيش في بيئة غير منظمة، وإنْ لم أقل همجيّة؛ فمصالحنا الدنيوية زرعت في نفوسنا الحقد والبُغض وضيق الصدور؛ فجذبتنا الأرض نحوهاً جذباً لتتركنا السماء في حال سبيلنا وحيدين.. تعامُلُنا هذا قد أثَّر سلباً على علاقاتنا، التي أصبحت تخلو تدريجياً من الرحمة والمودة، وهو ما يؤدي، في الأخير، إلى احتقان المجتمع. أما الحديث عن شُبّاننا؛ مستقبل الغد، فهم أمل مفقود، ومولود ازداد ميتاً يحتاج إلى زراعة روحٍ طيِّبة جديدة.

أمام هذا الكم الهائل من الذنوب والخطايا، لا يسعنا إلا أن نحمد الله تعالى على أنْ ترك لنا الأوكسجين حتى نتنفس لنعيش؛ لأننا، أيها الأفاضل، بأسلوبنا وأخلاقنا، لا نستحق "الحياة"!، لكن رحمة الله وَسِعَت كل شيء.

الأكيدُ أنَّ علم الأرصاد الجوية هو علم مستقل بذاته، يختص بدراسة الغلاف الجوي.. لكن، إذا كانت الأرصاد الجوية تحاول فهم المتغيّرات في الغلاف الجوي؛ من درجة الحرارة، والضغط الجوي، وبخار الماء، والتغيرات التي تطرأ عليها بمرور الزمن، فإنَّ الله تعالى هو مدبّر هذه المظاهر والعناصر الجوية، ومسخِّرها كيفما شاء سبحانه القائل: (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون) [سورة الروم، الآية 48].

أخرج ابن ماجه والبيهقي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: (أقبل علينا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتُليتم بهن، وأعوذ بالله أن تُدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قومٍ قط حتى يُعْلِنُوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم يَنْقُصُوا المكيال والميزان إلا أُخِذُوا بالسنين وشدة الْمَئُونَةِ وجور السلطان عليهم، ولم يَمْنَعُوا زكاة أموالهم إلا مُنِعُوا القطْر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم يَنْقُضُوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فَأَخَذُوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويَتَخَيَّرُوا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم).

موازاةً مع موضوعنا، المتعلق بتأخر الغيث، وحسب الحديث أعلاه، فإنَّ سرقة أموال المواطنين صباح مساء، وأعمال التزوير والاختلاس والفساد المالي، وغش الناس في معاملاتهم التجارية والإدارية.. كلها تَدخُل في باب "نقص المكيال والميزان"؛ إذْ أتساءل هنا، على سبيل المثال لا الحصر، ما الفائدة من الاعتقالات السياسية للشباب النزيه، المطالِب بحقه في الحياة، والقابعِ اليوم في السجون المغربية بدل سجن لوبيات الفساد؟! كما أن كنز الأموال، وعدم إخراج حق الله فيها، هو كذلك سبب في تأخر سقوط المطر..

أتساءل مجدَّداً: هل هناك إحصائيات دقيقة لعدد المغاربة الذين تجب في حقهم فريضة الزكاة، ولا يؤدونها لذويها؟! فيا ترى، لِمَ هذا البخل؟ ولِمَ هذا الكنزُ للمال؟.. في كل الأحوال، إذا لم نكن أهلاً للغيث، فندعو الله أن يرحم هذه البهائم العطشى ببركات من عنده، ولا يهلكها بمعاصينا.

أعزائي القراء، لعلِّي كنت قاسياً عليكم، وأستميحكم عذراً؛ لأنني غالباً ما أكون قاسياً على بني جِلْدتي، من باب الحبّ ليس إلا.. فأكثرُ ما يُحزِنُنِي، ويزيدني حسرةً، هو رؤية وطني/ المغرب يُساق بدون عقل، ويُقلِّد بدون فكر، مستعطفاً الغريبَ البعيد، مُقيِّداً القريب، ومُغيِّباً الضمير.

كيف يمكن ألا أكون قاسياً عليكم، والشبان أضحوا بدون قدوة في حياتهم؟! كيف يُغيثنا الله، والفساد الاقتصادي والإداري أصبح مُستشرياً في الشمال والجنوب، في الشرق والغرب؟! لعلّ الله تعالى ينتظر منَّا، شعباً وحكاماً، أن نتوجه إليه بدعاء خالص في طلبنا الغيث، بقلوب صادقة، ومُتيقِّنة من رحمته سبحانه؛ فهو المغيث إذا استُغيث، والمجيب إذا دُعي، وهذه الرحمة تستوجب منا أن نكون رحماء فيما بيننا. كيف لا، ونحن مَن يتلو، في صلواتنا اليومية، "بسم الله الرحمن الرحيم".. صفتان تدلان على كونه تعالى مصدر الرحمة.

إن المعادلة التي يجب على كل مواطن أن يضعها ضمن أولى اهتماماته تَكمُن في الرحمة. وبعبارة أخرى، أنْ تكون مواطناً صالحاً يقتضي ذلك أن تكون رحيماً. وبالتالي، فإذا كنَّا نرجو رحمة السماء وبركاتها، فما علينا إلا أن نَتّصِف بالرحمة في معاملاتنا، وفي علاقاتنا مع بعضنا البعض؛ كرحمة الابن بوالديه، ورحمة الوالدين بأبنائهم، ورحمة الزوج بزوجته، ورحمة التاجر بزَبَائنه، ورحمة الحاكم بمواطنيه.. الرحمة تقتضي، كذلك، من الدولة توزيع ثروة الوطن بعدلٍ على أبناء هذا الشعب، الذي عانى -وما يزال يعاني- في صمت!

وختاماً، أقول: ما الضّيْرُ من أن نكون رحماء؟ ما الذي يضرنا إذا تصدّقنا بشيءٍ من أموالنا، وإن كان قليلاً في كل أسبوع، أو في كل شهر؟ أليس ذلك من موجبات رحمة الله؟ أليس ذلك من مُوجِبات نزول الغيث من السماء؟ ولكن وجب علينا أولاً الاستغفار؛ لقوله تعالى على لسان نوح عليه السلام: (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمْددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً ما لكم لا ترجون لله وقاراً) [سورة نوح، الآيات 10ــ13]، والاستغفار هنا ليس فقط باللسان، وإنما كذلك بالفعل؛ وذلك بالإقلاع عن المعاصي، والتوبة إلى الله عز وجلّ.

ما علينا، كمواطنين وحكّام، إلا أن نرحم من في الأرض ليرحمنا مَنْ في السماء.

فاللهم اسقنا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين. آمين..

دلالات

A4CE764D-D68C-40C1-8186-BF93A6A89A7E
محمد بو عمامة

كاتب مغربي وأكاديمي مختص في علوم التسيير من جامعة بوردو الفرنسية.