عندما تلتقي برفيقة العمر في المستشفى

عندما تلتقي برفيقة العمر في المستشفى

19 ديسمبر 2017
+ الخط -
شاءت الأقدار ومسّه مرض خبيث، فدخل على إثره المستشفى، كان يرقد وحده في غرفة تتخللها خيوط العناكب، صراخ المرضى يداعب أذنيه، رائحة نتنة تفوح في الأفق، الذباب يتجول حوله، والوحدة بالمودة تواسيه. المرض ينهش جسده دون رحمة.

ذات صباح معفر بحبات المطرِ الشحيح كان يتأمل سقف الغرفة وحوار داخليّ مع نفسيته المهترئة، وإذا بفتاة لم تنتبه لرقم الغرفة، فدخلت عليه، فرأى فانوساً متوهجا، أو بالأحرى شعلة بيضاء تتعب الناظر إليها، ممشوقة الجسد، شبيهة بجذع شجرة الموز.

استولت على المناظر الجميلة والمشاهد الفاتنة المؤثرة منظرا أبدع ولا أجمل ولا أعلق بالقلوب. حينها، انغرس في قلبه سهم الإعجاب، اعتذرت وخرجت مهرولة وهو يتتبعها بعينيه الذابلتين، فكان وقع الصدمة كبيرا على قلبه جراء مشاهدته للجمال الذي يبهر النفوس.


مرّتِ الأيام، الأحوال والأجواءُ تتغير وهو لم يتحرك من سريره المتهالك الذي بدأ الصدأ يتربص به بين الفينة والأخرى. رغم مرضه الشديد كان يتمنى أن يشاهدها مرة أخرى، توالت الأيام ولم تظهر بعد.

فقد الأمل في رؤيتها مجددا، ولكن ذات يوم، أدخلوها إلى غرفته بقدم مبتورة، ارتجف حينما شاهدها وهي على كرسي متحرك، والدموع تنهمر من عيونها، جمالها اختفى ليخيم عليه الحزن الشديد.

مضت الأيام، فكان الحبيب والعاشق الولهان مريضا بالمرض العضال، ولكن كانت له القدرة على المشي، أما هي فأملها بالوقوف منعدم. بدأ يقترب منها شيئا فشيئا، إلى أن استطاع أن يقارع عزة نفسه النكراء، فذهب نحوها، وكأن الصدفة أبت أن تجمع بين عشيقين مريضين تحت سقف الغرفة، فواحد فقد الأمل في الحياة وينتظر على أحر من الجمر أن توافيهِ المنية، أما المعشوقة فباب الأمل مفتوح ولكن بقدم واحدة. عبر عن شعوره تجاهها، طأطأت رأسها خجلا، وابتسمت بعدها ابتسامة ميتة، لأنها تدرك أن هذا الحب أيامه معدودات.

بدأ رابط الحب يجمعهما رويدا رويدا، إلى أن جلس بجانبها وأشعة الشمس تتسلل من النافذة، وقال لها بحزم شديد إنه أحبها قبل كل شيء، فردت عليه بصوت جميل شبيه بزقزقة العصافير في فصل الربيع، وبكل افتخار أخبرته بإعجابها به. نزل عليه إعجابها كالصاعقة، فتعالى في السماء مسرورا، هكذا كانت بداية قصةٍ حب عذري بين مريض يحتضر وبين فتاة برجل واحدة. الحب قادر على إسكات جميع الآلام.

في ليلة باردة كبرودة جبال آلاسكا، بقي مستيقظا طوال الليل، وبدأ يفكر في محبوبته، البارحة كانت مرتوية الساقين، تمشي في خيلاء وكأنها شمعة مقدسة، واليوم لا تقدر على الحركة، تجلس وحيدة، وتبكي على فقدان رجلها اليسرى. وهو قد قطع الشك باليقين أن موعد رحيله اقترب ولا مفر منه.

ذات يوم السماء تلبدت بالغيوم وكأن المطر على وشكِ الهطول، استيقظت في الصباح الباكر، فوجدت سرير حبيبها فارغا كفراغ صحراء قاحلة، سألت عنه ولم تتزحزح من مكانها، أخبرها الطبيب أن من كان يرقد بجانبها بين الحياةِ والموت، نزلت من عينها دمعة تلقفها بمنديل أحمر، بقيت في مكانها تنتظر خبرا يفرحها، انتظرت لساعات طوال، إلى أن جاء النبأ العظيم، نبأ هز كيانها ومشاعرها، إنه نبأ الموت. لا شيء أصعب من موت الأحبة.

لقد كان بالأمسِ هو الحبيب والرفيق المصارِع من صلب المرض، واليوم انطفأت شعلته الوهاجة، فوجدت يدها قابضة على ريح هاربة. أول حب عاشته في حياتها كان بين مريض يقاوم آلامه بالابتسامة، وهي غير قادرة على الحركة.

مات وتركها زهرة لم تفرح بعد بأيام من العسل المصفى، أخذه المرض فتركها وحيدة، كئيبة، تعيسة. فتحولت من شعلة بيضاء إلى فتاة مظلمة. قلبها صار باردا كالثلج، والدموع تنسكب من عيونها كقطرات الندى في فصل الربيع. الموت والحب لا يلتقيان إلا في كيان واحد وهو المستشفى.

دلالات

D0771653-5987-472A-9832-BC01A63DAA54
سفيان البراق

مدون مغربي... طالب جامعي في السنة الثانية شعبة الفلسفة. السن 19 سنة وأنحدر من منطقة هوارة نواحي مدينة أكادير.