بنية الشّهادة كقاعدة تشكيل للحياة الفلسطينية

بنية الشّهادة كقاعدة تشكيل للحياة الفلسطينية

15 ديسمبر 2017
+ الخط -
يشكّل الموت منعطفاً هاماً لكلّ إنسان. في الموت لا يوجد شركاء، فكلما حاولنا أن نشرح الموت لأنفسنا نكون قد قدّمنا تفسيراً مطلقاً لوجودنا. الموت هو التجربة الفردية في نهاية المطاف، حيث يعجز العقل عن إدراكه. فالبشر غير قادرين على فهم الموت وسبر أغواره إلا  كانعكاسٍ لعناصر الحياة نفسها، لهذا السبب فإن الطريقة الوحيدة لفهم الموت تنبع أولاً من فهم السياق الثقافي لمجتمع ما، وذلك لأنّ كل مجتمع يقدم تفسيراً يتفق مع تجربته وظروفه التاريخية والثقافية الخاصة به. الموت لا يمكن أن يدرَك/ يفهَم إلا إذا جربناه، فعندما يموت صديق لنا أو قريب، فنحن نرى فقط شكل موته الخارجي وليس جوهره.

ولعلّ أفضل طريقة لإدراك ماهيّة الموت وجوهره تكمن في الشعر وما يتبعه من استعارات ورموز وإيحاءات، فقد حشد محمود درويش اللغة الشعرية من أجل مواجهة الموت، باعتبارها كياناً مستقلّاً ومتحرراً يمتلك قدرة فائقة على التغيير داخل منظومة من الإشارات والرموز والإيحاءات والاستعارات.

وهكذا تحاول اللغة الشعرية التمرّد على الموت عن طريق جملة الأساليب الفنية المتاحة وما تحمله من طاقة جمالية غنية. إن اللغة الشعرية هي أداة أساسية في المقاومة (العنيفة وغير العنيفة) وشرط أساسي للتعبير عن الوجود، فالقصيدة هي تشكيل فني لحيثيات أداء المقاومة الثوري، والشعر في هذه الحالة وجود أو حياة، ومعايشة يومية للواقع، أو علاقة انبثاق الكيانات وانطفائها. وتأخذ هذه العلاقة شكل نفي يضم: الاحتجاج واللاانصياع، الإدانة، الاستفزاز والرّفض.

ومن هنا، فقد اهتمّ محمود درويش بعالم الشهداء/ الأموات اهتماماً كبيراً من خلال شعره، فرسم لهم صورة واضحة المعالم سعى من خلالها إلى تمجيدهم وتخليد ذكراهم. فهذه الصورة الشعرية في شعره تكشف عن رؤية فلسفية عميقة لدى الشاعر فرضتها طبيعة تجربته نفسها التي عايشها وعاش في خضمّها. ومن هنا، ينطلق خطاب الموت عند محمود درويش في محاولة حثيثة لإقناع الذات بتخريجات وحلول شعرية تجتهد في إيجاد حلول لمشكلة الموت، حيث يرى الشاعر في الموت/ الشهادة تجدداً وانبعاثاً وحياةً ومقاومةً، فـ"الشّهيد" غير مبنيّ على الخروج المطلق القسري من هذه الحياة بل هو يختار وبملء إرادته أن يضحّي بحياته من أجل الآخرين من أبناء بلده، فموته ليس عبثياً بالمطلق. 

ولتوضيح هذه الفكرة أكثر، يمكن الاستعانة في ضوء ذلك بدراسة مهمّة عن "الشهيد والعمليات الاستشهادية" لميّ الجيوسي، والتي تشير فيها إلى وجوب النظر إلى "العمليات الاستشهادية" كعمليات تمارَس كجزء من مسار متتابع له تاريخه، فتطور العنف يحمل منطقه الخاص لأنّه منطق ينطلق من التجربة لا من تطور الأفكار، فما يعطي "الشهيد" الحقّ في الفعل ليس مجرد قضية نظرية، بل الشروط العملية التي أدت إلى نشوء هذه القضية. فهذه المعاناة اليومية التي تمسّ الفلسطيني وعائلته ومجموعته المحيطة هي بالتحديد ما يجيز الاستخدام المعبّر للعنف. فحين يكون الجسد الفلسطيني - بحسب الجيوسي - هو مرمى النظام القمعي الكامل الذي تمارسه السلطة الإسرائيلية الهادفة إلى التجريد الجذري من أي شكل من أشكال الفاعلية السياسية، يصبح الجسد بدوره في "العمليات الاستشهادية" هو موقع المقاومة والفاعلية، وتتحقق هذه الفاعلية لحظة تدمير الجسد لذاته محوّلاً نفسه إلى إنسان يمكن التضحية به من أجل الجماعة لا قتله، فلا يستطيع المرء فصل التجربة الجماعية عن التجربة الفردية الخاصة به حين تكونان ناجمتين عن العنف. فالاستشهاديون يقدّمون أجسادهم دليلا على حقيقة وجود الجماعة واعترافاً بهم مؤكدين مطلبهم المعنوي المتمثل بتكوين نفسهم كجماعة سياسية. إذن، يشكّل الموت لحظة استرجاع يوتيوبي للفاعلية الفردية التي عبّرت عن نفسها في العمليات الاستشهادية.

وفي كتاب آخر لافت للنظر بعنوان "صور الموت الفلسطيني" لإسماعيل الناشف، يلتقي المؤلف مع ما وضحته الجيوسي سابقاً بأن الفلسطيني يموت ليحيا، ولن يحيا إلا بموته، مشيراً إلى عمق تجذر بنية الموت كقاعدة تشكيل للحياة الفلسطينية، فأن تموت شهيداً يعني أنك تنتزع من النظام سيطرته على إدارة شؤون الموت الجماعي الفلسطيني، وإن كان هذا الانتزاع رمزياً أو جزئياً. فالشهيد الذي حمل عتاده العسكري وسلاحه الشخصي ليؤسس مسارات العودة الفعلية من خلال العمل الفدائي، مَوضع جسده ثمناً مدفوعاً مسبقاً لتحقيق هذا التأسيس، وبهذا فصَل الشهيد الجسد عن أداة القتال التي يحملها فصلاً يرى في الجسد قيمة حاملة لإرادة فاعلة تسعى في تأسيس مسلك العودة واختار جسده البيولوجي أداة قتال. باختصار: إنّ "الشهيد" شكل موت يحدد شكل حياة الفلسطيني.

الشهيد رمزاً للحياة والتجدد

على هذا الأساس، يحتفي محمود درويش بالشهيد، ويرسم له صوراً متعددة تنبض بالحياة، وتفيض بالخصوبة. لعلّ أبرزها أنه تصوّر الشهيد سنبلة/ بذرة تُغرس في رحم الأرض لتولّد السنابل التي ستملأ الأودية والمروج والحقول، يقول:

وحبوب سنبلة تجف

ستملأ الوادي سنابل

وقد أكّد درويش أن "الشهيد" حاضر بين أهله وأحبته وأصدقائه وأمته، فالشهداء كما يرى درويش، لا يموتون بل يذهبون إلى النوم، وسرعان ما يفيقون على أحلامهم ورؤاهم، لذا فاستشهادهم جسر للحياة وطريق للنصر، وسبيل للتحرير بل هم يمارسون فاعلياتهم في مقاومة الاستعمار حتى بعد الموت. وهنا يصبح الموت بالنسبة للشاعر معايشة للحياة، لأن هناك فعلاً قائماً هو فعل الموت والشهادة. والموت الذي يعنيه ليس الموت العادي ولكنه الموت الذي يتم بناء على فعل المواجهة، أو المقاومة. إنه قوة حركية فاعلة في المجتمع، وبه يكون بناء الأوطان وتحقيق الأهداف، حيث يقول في قصيدة بعنوان "وعاد.. في كفن":

يا أصدقاء الراحل البعيد

لا تسألوا: متى يعود

لا تسألوا كثيراً

بل اسألوا: متى

يستيقظ الرجال

فدرويش يخاطب أصدقاء الشهيد - الراحل إلى حياة الموت، ويطلب منهم ألا يسألوا عن مصيره لأنه معروف، والأجدر بهم أن يسألوا عن حال أولئك الميتين في الحياة كأنهم نيام، فمتى يستيقظون من موتهم، لكي يلحقوا بهذا الراحل إلى حياته الهدف؟

وختاماً، لا بدّ من القول إن خوض درويش في موضوع "الاستشهاد" لم يعنِ تحريضاً على الموت كطريق وحيد للمقاومة من أجل استعادة الأرض المغتصبة، فمحمود درويش في مجموع إنتاجه الشعري والذي تكلم به بروح الجماعة قد قدّم لشعبه أملاً جديداً، فإذا كانت آلة العدوّ القاتلة قد أسقطت "الشهيد" في معركته العادلة، فإن الشعر قادر على استعادته في كينونة جديدة ربما كانت أقوى من كينونته السابقة على زمن الاستشهاد.

وبهذا، يكون درويش قد نجح في تغيير المفهوم السطحي للموت لمنحه أبعاداً يتقاطع فيها الرّمز والواقع، كل ذلك من أجل خلق شعر يحوّل المعاناة إلى مقاومة، ويحول ألم شعبٍ إلى كفاح في سبيل استرداد أرضه وكرامته. وحتى حين يكتب درويش عن الموت بضمير المفرد، يبقى الموت عنده نتيجة مفهوم جماعيّ تنظر إليه الذات بوصفها جزءاً ملتحماً بالكلّ، نعم يموت الجسد، يفنى ولكن يبقى الشهيد الحرّ محلّقاً في سماء البلاد كأنه العنقاء التي لا تموت. الجزء الذي يموت سبيل الكل إلى المقاومة في سبيل الوجود.

ABDEEA39-AF88-4731-8025-B46B7426D955
مي جلال عواد

حاصلة على ماجستير في الفلسفة السياسية من معهد الدوحة للدراسات العليا.