حمام النسوان في سجون الأسد

حمام النسوان في سجون الأسد

01 ديسمبر 2017
+ الخط -
هناك أغنية إدلبية قديمة تتحدّث عن حَمَّام العروس والطقوس الشعبية المرافقة له تقول: عـ الهوني يا سمرا هوني.. على حَمَّامِكْ عزموني..
ومن أبياتها الرائعة واحد يقول: هَـ السمرا شقد بتنحبّْ.. البوسة منها بتحيي القلبْ.. والله لَـ أربطلا عَ الدربْ.. وأعمل حالي مجنوني!
لعل نصب الكمين للمحبوبة على الدرب ليس شأناً إدلبياً خالصاً، فهناك أغنية رائعة لكاظم الساهر يقول فيها الرجل للمرأة: لَـ أقعدْ لِكْ عَ الدرب قعود.. سمرا يا أم عيون السود.
وتلاحظون فوراً أن العاشق الذي تحدّث عنه كاظم الساهر عاقل وخجول، وتقتصر محاولته على اللقاء العابر في الطريق، بينما العاشق الإدلبي جريء ومتظاهر بالجنون ويلحق محبوبته بخيالاته إلى داخل الحَمَّام!
والغريب في الأمر أن أغنية "السمرا والحَمَّام" الإدلبية تُغَنَّى للعروس، سواء أكانت سمراء أم شقراء أم أقاحية. ويبدو لي أن مؤلف الأغنية لم يكن يقصد العروس بذاتها، وإنما على مبدأ المثل الشعبي القائل (الكلام لكِ واسمعي يا جارة)، بمعنى أنه يرسل الأغنية لحبيبته، وإذا لزم الأمر يغير في كلماتها فيقول: ع الهوني يا شقرا هوني.. بدلاً من: يا سمرا.

وفي الأمثال الشعبية قولهم إن الدخول إلى الحَمَّام ليس كالخروج منه. وبهذا المعنى يكون (الحَمَّام) ورطة يجدر بالعاقل أن يحسن التعامل معها، فأنت تستطيع أن تدخل كيفياً، حتى ولو كنت متّسخاً، ولكن عليك أن تخرج نظيفاً مطهراً وبثياب نظيفة، وعليك، وهذا هو الأهم، أن تدفع الأجرة لصاحب الحَمَّام.
السوريون الذين حكمهم حافظ الأسد أصبحوا يتحدّثون عن الحَمَّام بلغة المساجين، فيقولون إن هناك نوعين من الحَمَّام، المنزلي الذي يشبه غرفة السجن المنفردة، وحَمَّام السوق الشبيه بمهجع السجن الكبير (القاووش). وأما أهل دمشق فقد أضافوا مفهوماً ثالثاً للحَمَّام، إذ أطلقوا هذا الاسم على بيت الخلاء.
ولحَمَّام السوق أهمية خاصة عند معظم الناس، فهو ليس مجرد مكان لغسل الجسم من الأوساخ وروائح العرق، وإنما مكان اجتماعي يلتقي فيه الناس، وتدور فيه أحداث مهمة، وتروى عنه طرائف ونوادر.
ففي حلب، مثلاً، إذا وقع خلاف بين طرفين حول سيارة مستعملة في مكتب لبيع وشراء السيارات، يُضطر أحدهما إلى أن يتحدّى الطرف الآخر، فيروي له حكاية البنت الجميلة التي شكك الخاطبون في كون شعرها أصلياً (خلقة الله)، أم مستعاراً، فأجابتهم والدتها قائلة: الملاقاة عند جرن الحَمَّام!!
وهم يقصدون بقولهم إن الحَمَّام هو مكان للتعري (وظهور الحقيقة) لا يقبل الزيف والأشياء المستعارة. وهذا ما أكده الأديب التركي الساخر عزيز نيسين حينما أراد في إحدى قصصه أن يعـرف كلمة "تري لاي لام"، فقال:
- هي كلمة تقال حينما يجتمع الملك وحاجبه عاريين عند جرن الحمام!
وللحقيقة فإنه من العسير أن يميّز المرء بين "ملك" و"حاجب" إذا تخلّى أحدُهما عن ثياب العز والأبهة، وتخلّى الثاني عن ثياب الذل والخنوع والبهدلة.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...