"الولد البكر" بخمسمائة دولار

"الولد البكر" بخمسمائة دولار

23 نوفمبر 2017
+ الخط -


في يوم من أيام سنة 1993، وبينما أنا جالس في منزلي في مدينة إدلب، اتصل بي شخص، عرفني بنفسه على أنه شاعر، وقال إنه معجب بقصصي، وإنه لهذا السبب اختارني من بين أدباء محافظتنا ليطلعني على تجربته الشعـرية. وأنهى المكالمة قائلاً إنه سيغلق الخط ويأتي لزيارتي في البيت حالاً.

وفي انتظار وصوله رحت أفكر قائلاً لنفسي: مؤكد أنه شاب في مقتبل العمر يريد أن يشق طريقه وسط الزحمة، ويريد أن أساعده في النشر. فإذا كان شاعراً جيداً، فهذه نعمة، وإذا كان متشاعراً فهذه ليست كارثة بحد ذاتها، لأن المتشاعرين لا يضيرهم أن يزداد عددهم واحداً، وإذا كان شخصية طريفة أكون أنا الرابح.

غير أن الحضور الشخصي للرجل ضرب الاحتمالات التي أبْدَعَتْها مخيلتي كلها، فهو لم يكن شاباً، بل كهل بوجه متغضن وشعر شائب، ومن جهة أخرى هو لم يترك لي فرصة كافية لتأمله والتمعن في شخصيته، فبمجرد ما دخل قال "مرحبا" ومشى إلى جوار جهاز الهاتف، جلس وضرب رقماً يحفظه عن ظهر قلب. انتظر لحظات ثم تدفق قائلاً:

- مرحبا سيدنا. كيفكم؟ الحمد لله. من أين أحكي؟ من منزل صديقي الأديب خطيـب بدلة. لم تسمعوا به؟ أبداً؟ يا سيدنا الحق علي أنا، كان المفروض أن أحدثكم عنه. كتابي؟ جاهز في المطبعة، لا ينقصه غير التجليد ورضاكم. كم نسخة ستشترون منه بعد أن يُطْبَع؟ مئة فقط؟ ولو يا سيدنا، على الرأس والعين، ولكنني كنت مؤملاً أن تشتروا مني مئتين، فأنتم كريمون وأنا أستاهل.

بصراحة سيدنا عندي موضوع آخر. أنا أعرف أنكم تمونون على مدير مؤسسة الإسمنت. بلى سيدنا ذهبت إليه، ولكنهم قالوا لي عنده اجتماع. الله وكيلك يا سيدنا انتظرته ساعة عند الباب ولم ينته ذلك الاجتماع. أهو اجتماع مجلس الأمن أم الجمعية العمومية يا سيدنا؟

المهم، بعد عدة مكالمات أجراها الشاعر مع سيده ومولاه وأفنديه، التفت إلي قائلاً: سأقرأ لك قصيدة "الولد البكر". يا أستاذ من دون مبالغة هذه القصيدة درت علي 500 دولار صافية.

قلت مندهشاً: منذ متى والشعر يربح نقوداً؟

قال: يربح مع الفهيم، ويخسر مع الغشيم. القصة باختصار أن الأمير فلانــاً، من الدولة الشقيقة "س" تزوج قبل عشر سنوات، ولكن زوجته لم تنجب. لم يترك دولة أجنبية متقدمة إلا وذهبا إليها للعلاج. بصراحة أنا كنت متفائلاً بأنها ستنجب، فنظمت هذه القصيدة، وخبأتها لغدرات الزمان. وبما أن ربك كبير، والعلوم الطبية في أوروبا متطورة فقد حملت زوجتُه، وقبل شهر من الآن وضعت غلاماً، فهرعتُ أنا إلى أقرب فاكس وأرسلت القصيدة إليه، فدهش هو، وهرع إلى أقرب مصرف وأرسل لي الخمسمئة دولار!

قلت: المشكلة لو أن أختنا، زوجة الأمير، ولدت بنتاً.

قال باستخفاف: ليست مشكلة ولا ما يحزنون. فبما أن المولود له احتمالان، ولد أو بنت، فقد جعلت عماد القصيدة تفعيلة (فَعِلُنْ) وهي تناسب (ولدٌ) وتناسب (بنتٌ)، يبقى عليك أن تجري تغييراً طفيفاً على المعنى: احذف الأبيات التي تتحدث عن أهمية الولد في شد الإزر، وضع مكانها أبياتاً تتحدث عن حنان البنت وكيف أنها تشيل الأبوين في كبرتهما، ينتهِ الإشكال!

قلت: حسناً، أنا ما زلت أنتظر سماع القصيدة.

قال: حاضر. وقرأها لي بانسجام كبير، ثم سألني: ما رأيك؟

وقبل أن أقول له رأيي سارع إلى القول وهو يضحك: ما أغباني! أسألك رأيك وكأنني لا أعرفه. أنت يا أستاذ إنسان ذواق ومستحيل ألا يكون رأيك بقصيدة كهذه رائعاً. تعال تعال.. حتى لا نضيع الوقت بسماع رأيك، تعال أسمعك القصيدة التي نظمتها بمناسبة ذهاب الأمير علان إلى العمرة! هذه بعثتها بالفاكس وحتى الآن لم يصل الشيك. اسمع.

وشرع يقرأ..
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...