تغريبُ سُنبلة

تغريبُ سُنبلة

16 نوفمبر 2017
+ الخط -
أي شيء قد يصبح قادراً على أن يطحنك تماماً ويخرجك دقيقاً إن شئت أن تكون في موقع العاجز، أو المستلبة قواه، أو، وفي أبسط الأحوال، أن تكون في موقع قضيب قمح لا أكثر، ينتظر أن تأتي الساعة التي تتشلع فيها بثوره والحبوب، وتُنثر إلى رحاها فتهرسها تلك بين ردفيها الحجريين.

المدينة تصبح رحىً: يستحيل إسمنت أبنيتها الخشن، إلى صخرتين تجرشان بالتلقائية المناسبة للسبب الذي وضعتا من أجله، حبات القمح المرصوفة على هيئتي، أنا قضيب القمح العاجز!

المدينة الغريبة تظل غريبة حتى ولو تطورت علاقتكما حد المضاجعة. المدينة الغريبة متسترة بضباب غرابتها دائما، تعجزُ عن رؤيةِ بواطنها حتى في أوج النهار. ترمي هي أشلاءك المتكتلة خلف بعضها البعض من بين ثقب وسيع في الأعلى، فتسمح لك بأن تدلف إلى داخلها، حتى يساورك مسخ يقين بأنك ولجت في صلب كنهها وصارت مفضوحة في عينيك، ومفتوحة بفعلك.. ولكنك تتفاجأ بأنك أُدخِلتَ ولم تدخل. وببدء الحركة الأولى لها، يذوب الضوء المنسل، وتغيّبُكَ في ظلامها المديد.

المدينة الغريبة كالمومس، تعطيك شيئها الوحيد الذي تريد، إن استطعت القدرة على تعويضها في الآن، وتتحول إلى مركَب، تجوب به، يجوب بك، روافد الشهوة المتفرعة من سيل الرغبة اللانهائي، ولكن حين يتجاسر فضولك محاولاً إرغامها على أن تكشف عن العالم القابع خلف عريها، تلتهمك وتبتلع فضولك، فيختفي توقك هذا من داخلك وتسكب عليك وعليه صلواتها المُطَمئنة وتُنسيك المشتهى.

الخرطوم: مصب جام غضب الله، أو الرتقة الأخيرة التي شُكّلت بسرعة لكي يكتمل وجه الأرض، أو النهاية التي رفضت أن تكون جميلة، وتخلت عن السَّعدِ.


الصبية الصغيرة، والسيدة الثرية، والامرأة الفاحشة، والمراهقة البلهاء المنبثرة الوجه، كلهن معطرات بما يحب خرطومي الصغير الناتئ من عظام وجهي من روائح، كلهن معطرات بما تشتهيه رغبة ذاك الطفل الغافل أنا عنه.

أَسأَلُني: أحالُ المدينة أيضاً كحال طفلي المسكين؟
أتشتهيه مثلما يشتهيها؟
أترغب في ملاطفته سراً؟ ولو في غياهب بخور مدعرة حبشية لا يبالي بها نبلاء هذه الأرض؟

أُجيبُني: لا، الخرطوم اعتادت أمثال طفلي، ووصل بها الأمر لأن تأويهم وتربيهم وترعاهم ما دام النيل الذي يمزقها قطعتين لا يأبى الخضوع لبوصلته.

الضرع الذي قسّى حليبه عظام مصطفى سعيد وعواطفه، صنع مناعات وأسلحة جديدة، وفرّخت الفروج مصطفين كُثر من بعد المصطفى الأول.

صارت جذور أشجارها أمتن، تغوص في أعماق التراب دون كلل، وصار النيل يتلون من ضفتي تلك الأرض، وذاك التراب. أصبح بنيّاً أكثر ولزجاً أكثر، وثقيلاً.

المدينة الغريبة أبدا، صارت تمتلك البداهة الكافية لأن تجتذب فرائسها إليها، وتدك مضاجعهم متى تشاء، ومتى ترغب.. تعلم مصطفوها من مصطفاهم الأول أن يعوّدوا أنفسهم على الاستفادة من عيون الباكين واليائسين القادمين إليهم، ولو بتكرير دموع تلك العيون، واستخراج الملوحة منها.

صارت المدينة تكتب عن التاريخ بواسطتي، فتقول:
"الأمسُ يتلبّسُ يومك
مثلما تلبّس أمسُكم أيامنا.

لا شيء أذكره في التاريخ، فالتاريخ عبّارة تمتطيها ردود الأفعال، وتسيّرها أهواء قباطنتها..
هنا، يجري وفق مشيئة النيل، وهناك وفق مشيئة البحر، وفي الأماكن القصية يلتحم مع الهواء البارد ويخط درب القوافي المنتظمة في الشعر بالشعر، ودرب الأحاديث الخالدة بالخداع.

التاريخ الفعلي هو ذاك الزمن الزاخر بحكايا الهلاك المنظم، (بالأبطال الأشرار الصالحين) الذين قاوموا شرورهم واقتطعوا من مبارزاتهم معه بضع جولات، فهنأهم الجميع وعدوّه انتصارا للخير، فأودعوا المقاومين برزخ الخلود، ونصبوا لهم على الأرض تماثيل بازلتية تُشبههم، وأضرمَ المدّاحون في ذواتهم النيران، أشعلوا ذواتهم فرحاً.

التاريخ، هو الصور المالئة خيال المصلوبين المعذبين وهم يمزقون جلادهم وينهشون كبده في اللحظة ذاتها التي يُلقي الجلاد فيها على أجسادهم أمراض ساديّته ويسوطهم بـ"أكبال" النحاس اللاسعة.

التاريخُ: رغبة المعذَّب، الملبّاة، في امتطاء شرف الجلاد. إخراجٌ واقعي لأفعال مخبوءة في خيالات المظلومين. فُلك من الهواجس المرصوفة إلى بعضها بمتانة، الخارجة إلى مياه الممكن، والعابرة لنطاق الذاكرة ومدى العظام.

التاريخ، إجهاض قسري (للذاكرة)، يشرف عليه رجلُ أعمالٍ داه، يزنُ بكفّيه ما يزنه الأخطبوط بالثمان، يثمّن في ثوان أهمية الذاكرة مقابل الماس، وكم ستدر عليه عملية تكرير أحدهما مقابل كليهما، فيرجّح تكرير الماس الخام، على أن يكرر خام الذاكرة، لأن الماس يؤدي إلى ثروة، أما الذاكرة فليست إلا مقبرة مؤقتة للحقيقة، حقيقة تنتظر في الدرك الأسفل يأجوجاً يعيد إليها صوابها فيحييها، أو مقاوماً خبيثاً يُكسي عُريها الأبدي ثوبَ عبدٍ مسخٍ قبيح لكي يتخلص منها إلى الصرف الصحي ومن بعدها يرفع علامة النصر..

ينتصرُ المُجهِض
التاريخ الماضي هو المسرح الأرحب لارتكاب الجنايات وتنويعها، وهو كالحاضر تماماً، لا يختلفان عن بعضهما إلا بتفاوت زمن كل منهما.

التاريخ تمهيد درامي لمستقبل الفعل الآني، لن تحتاج إلى الكثير من الإلمام والمعرفة حتى تستنتج نهاية القصة الفائتة/ المسرحية التي تقرأها الآن: سيأتي ذلك اليوم الذي يمتطي العبد فيه شرف الجلاد ويدك بحوافر جواده خاصرة النبيل البيضاء، وستنتقل المجزرة إلى هناء المعسكرات التي كانت نافذة في السابق ومنتصرة، وتقذف عن أبدانِ بنيها الغضّة ثوب السكينة المتهدل، وستضيق المساحات، التي كان من الممكن الهروب عبرها، أكثر وأكثر، وسيحل البلاء العظيم، ويموت الزرع، وتتدفق الدماء في الأخاديد، ويصبح مظلوم الأمس ظالماً اليوم. وقد لا يحدث كل هذا!

من المرجح، من الأكثر حنكة، ومن المُربِح أن تُستَبدل كل هذهِ المآسي، أن يُستعاض عنها بفعل أقل كلفة وأكثر أثراً ونجاعة: أن يُأتى بالذاكرة إلى تلك الغرفة الأخيرة، مكان استجهاضها، ومن ثم ينتهي كل شيء".
D55DE373-721B-4026-A6D9-8F87AEDC703D
جاد الله قرموشة
كاتب، درس علم الاجتماع ويدرس الصحافة والإعلام في جامعة دمشق

مدونات أخرى