السكرتيرة جميلة وعين المدير زايغة

السكرتيرة جميلة وعين المدير زايغة

16 نوفمبر 2017
+ الخط -
كتبت السكرتيرة الجميلة في دفتر مذكراتها:

14 آب/ أغسطس.. 

الطقس اليوم حار جداً، لم أصل مكتبي إلا بطلوع الروح. في بداية تعييني بصفة سكرتيرة خاصة عرض علي (المعلم) فكرة أن يمر بي ويأخذني في طريقه من أمام البيت. اعتذرت عن تلبية هذا الطلب، ففي حارتنا الحكي على النسوان أكثر من العمل والأكل والشرب والتنفس. 

وقفت أمام المرآة التي أخبئها خلف خزانة الأضابير التي تتحرك على دواليب صغيرة مصنوعة من الستانلس ستيل، سويت هندامي ومكياجي، ففي الميكروباص الذي أستقله يومياً لا يبقى فيَّ شيء على حاله من شدة (التدفيش والدَحْوَشة)، وحتى كندرتي فقد خرجت فردتاها من قدميَّ أكثر من مرة وتلوثتا بالغبار والطين. 

بعد أن اطمأنيت على هندامي دخلت إلى مكتب (المعلم)، فوجدته متعكر المزاج. أنا، بفضل ذكائي (وعذراً لهذا الادعاء الذي يشي بالغرور!)، وفراستي، وخبرتي، أعرف الأشياء التي تجعل نفسية المعلم تتغبر.. فبينما هو يمارس حياته بهدوء، وبأمان الرحمن، وبينما هو يمارس سلطته على الموظفين والعمال الذين يقعون ضمن نطاق سلطته، بمتعة لا تضاهيها متعة، إذ يتصل به واحد من أصحاب السلطة الخفية عليه، ويحكي معه زوجاً من الكلام الذي يسم البدن، ووقتها تصبح حالته مثل حالة رجل محترم يلبس الطقم الرسمي والكرافة، وفجأة يدوس على قشرة موز ويقع من طوله أمام الذي يسوى والذي لا يسوى من العابرين!

وأعرف، أيضاً، أن أكثر ما يغيظ المعلم ويفقده صوابه هو اصطدامه بواحد ليس من القماش الأصلي، بل من البطانة! فلو أن ذلك (المعلم الكبير) القابع وراء مكتبه اتصل وأمر، ونهى، وغضب، ونرفز، وزجر، ووبخ، لبقيت الأمور في نصابها الطبيعي، أما أن يأتي واحد أقل من المعلم شأناً، و(يبيض) عليه بالحكي الفارغ، فهذه لا يحتملها.

حينما رآني ارتاحت نفسيتُه قليلاً، أصلاً هو لا يرتاح إلا بوجودي. أشار بيده إلى أحد القلاطق الكبيرة، وكاد أن يقول لي: تفضلي، اجلسي حبيبتي. ولكنه تذكر أنه ليس من عادتي أن أجلس في مكتبه. ذات مرة قالها لي فأجبته بكل احترام:

- ماذا يقول الناس حينما يدخلون مكتب حضرتك ويرون سكرتيرك جالسة ولافة رجلاً على رجل في مكتبك؟ 

المهم، قال لي: اتصل بي "أبو القفة" عبر الموبايل..

(قبل أن أكمل تدوين ما جرى بيني وبين المعلم أحب أن أوضح أنني دخلت على المعلم ذات مرة فوجدت عنده رجلاً ذا رأس كبير جداً، أكبر من الحجوم المعتادة للرؤوس البشرية، وبعد أن خرج قلت له: من يكون هذا الرجل الزائر الذي رأسه بحجم القُفّة؟! فضحك كثيراً ومن يومها وهو يلقبه أبا القفة!).

قال: تصوري أبو القفة صار له راس وبرناس وصار يتصل بنا ويطلب منا طلبات يزعم أنها تلزمه في الاجتماعات المهمة مع المسؤولين الكبار!

قلت: ماذا يريد أبو القفة أفندي؟

قال: يريدنا أن نوافيه خلال ثمان وأربعين ساعة بجداول مفصلة بأسماء العاملين في مؤسستنا والشركات التابعة لها مع أسماء آبائهم وأمهاتهم وزوجاتهم وأولادهم وتاريخ ولادة كل منهم، وسنة تعيينه، وعدد الترفيعات التي طرأت على راتبه، والعقوبات المسلكية المحفوظة في إضبارة كل واحد، والقروض التي حصلوا عليها من البنوك والأقساط المدفوعة والأرصدة المتبقية..

قلت: هذه المعلومات تحتاج إلى أكثر من شهر حتى تكتمل.

قال: أعرف، ولكن "أبو القفة" يحتمي بفلان الفلاني، ونحن لا نستطيع أن نرد طلبه، فماذا أفعل؟

كنت سأقترح على (المعلم) أن يستقيل من عمله احتجاجاً على هذه الطلبات التعجيزية، ولكنني تذكرت أن بلادنا لا يوجد فيها مَنْ يستقيل! فسكتُّ، وتابعتُ الأعمال الموكلة إلي، ومن بينها أعمال ليست موكلة إلي، ولكنها ضرورية لأجل الاستمرار.. وفهمكم يكفي بالطبع.   

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...