نزعل على كل نقطة تراق في سورية

نزعل على كل نقطة تراق في سورية

13 نوفمبر 2017
+ الخط -
أنا، مثل كثيرين، في هذه السنوات السبع، لم نقل يومًا: "الله محيي الجيش الحر"، هذه الجملة الضبابيَّة الغامضة. لم نتحمّس لمعارك الساحل، لأنّنا ندرك أنَّ الجهاديين ذاهبون لقتل العلويين و"تصحيح الخطأ في عقيدتهم"، وليس لشيء آخر.

لم ندافع يومًا عما يسمّى بـ"جيش الإسلام"، لأنّ الإسلام لا يجب أن يكون له جيش أصلاً، ولأنّ قادته متورّطون في الانتهاكات والفساد. ولمّا مات زهران علوش على يد أشباهه، صمتنا، ولم نفرح ولم نزعل.

راقبنا معركة "فك الحصار عن حلب"، لأننا عرفنا أنّ القادم دموي، وا
لإجرام الأسدي مدعوم دولياً وأقوى بكثير. لم نمدح يومًا لا دور الخليج ولا دور تركيا، لأنّها أدوارٌ تبحث عن أمنها القومي أوّلاً، ولا تهمّها مصالح السوريين بالدرجة الأولى. ومضحك أنّ تعارض السعودية بشار الأسد، وهي تدعم بشراسة أفشل ديكتاتور هو السيسي.

لم نتورّط بالدعوة إلى "إبادة العلويين" أو تحقيرهم أو اتّهامهم، في أشد اللحظات طائفيَّة، حيث كانت السكاكين تحزّ الرقاب. وحاولنا فهم الطائفيّة كمسألة لها علاقة بالسلطة والنفوذ. ندرك أنّ من يقود "الحرب على الإرهاب" هو عامل أساسي في تغذيته، ونعرف أنّ هذه الحرب سخيفة، وستولِّدُ إرهاباً أبشع.

وأعرف شخصياً أنّ حزب العمال الكردستاني وفروعه، يعملون على مشروع شمولي بشع، شديد الفئوية والخصوصيَّة، رغم أنّه حقّق أماناً نسبياً في المناطق الشمالية (ومنهم أهلي الذين يعيشون هناك)، ولكنّنا ندركُ هذا الابتزاز جيّداً بين إحقاق الأمن وسلب الحرية، فهو ابتزازُ أسديّ الأصل. ولن تمرّ علينا خدعة المقاتلات الكرديّات، وأثرها الإعلامي على الغرب، فليس منطقياً أن تحقق مشروعاً نسوياً، وتحرق مكاتب من يخالفونك بالرأي، النسويّة تفترض الديمقراطيّة أوّلاً يا منظّري "أخوة الشعوب".

كثيرون مثلي، يزعلون على كل نقطة دم تُراقُ في سورية، كل نقطة دم بالحرف. وهي حربٌ شبّهها الصحافي الألماني، فولغانغ باور، بـ"النزيف الأبيض"، وهو مصطلح كان يستخدم في الحرب العالميّة الأولى كدلالة على كثرة موت خيرة الشباب والمراهقين.

نعلم أنّ كثيراً من الجهاديين والسلفيين وحتى جنود جيش النظام السوري، هم شباب صغار، جُنّدوا في ظروف سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة ونفسيّة معيّنة. ندركُ قلّة تأثيرنا وضعف فعاليتنا على سير المجريات العميقة للأمور. كثيرون هم في هذا الموضع. ولكن في الموضع الآخر، حيث اليسار التونسي واللبناني الأسدي الممانع، خلاصة "الانحطاط والسفالة وقلة الضمير والإجرام".

(عنا وعنهم)

كبروا في مدارسَ تستخدم التحليل النفسي، وأساليب التربية الحديثة، وكان أهلهم يقلقون إذا لاحظوا تغيّرًا طفيفًا في سلوكهم. ونحن كبرنا في مدارس، يراقب فيها مدرّب التربية العسكريّة طول شعر رأسنا.

درسوا أدبًا وفلسفة في طفولتهم، ونحن درسنا إسكندر لوقا، وكتبه عن حافظ الأسد. سافروا منذ الصغر إلى كل الدول، ونحن كنّٓا ننتظر قدوم العيد، كي ندخّن، وندخل السينما، ونسافر بالباص من القامشلي إلى الحسكة.

يجلسون مع الطبيعة منذ الصغر في مخيمات مدارسهم المدعومة من الدولة، ونحن كنا نرى الطبيعة فقط 
في عيد النيروز. خالطوا الفتيات منذ الصغر، ونحن كنا نشعر بالندم والحسرة والوحدة بعد ممارسة العادة السريّة.

تعلّموا لغات عديدة في مدارسهم، وأنا كنت ممنوعًا من الكلام بالكردية في المدرسة. ينادون، وهم صغار، من هم أكبر منهم بأسمائهم، ونحن نقول "عمو" و"خال" حتى لرجال المخابرات.

كبروا مع الكلاب في بيوتهم، ونحن كنّا نثقب أجساد الكلاب، ونسلخ جلود الحمير. 
كبروا في الهدوء والراحة، ونحن كبرنا في الضجيج والحسرة. ومستحيل أن يندمج الضجيج بالهدوء.


شخصيّاً، لم أعد أريد شيئاً من سورية. فقط ألا يموت أحد، أيّ أحد كان، ومن أي طرف كان. وألا تدمر بيوت ومدن أخرى، وألا يترك ناس بيوتهم ويصبحوا لاجئين. وأن يعود كل مخطوف ومعتقل إلى أهله. 

موقف إنساني سطحي ومعروف وغير سياسي، صحيح. ولكن، هذا ما أشعر به.


دارا عبدالله
دارا عبدالله
كاتب سوري يقيم في العاصمة الألمانيّة برلين، من مواليد مدينة القامشلي عام 1990. له كتابان: "الوحدة تدلل ضحاياها" (صادر عام 2013) و"إكثار القليل" (صادر عام 2015). يدرس في كليّة الفلسفة والدراسات الثقافيّة في جامعة "هومبولدت" في برلين. من أسرة "العربي الجديد" ومحرّر في قسمي المدوّنات والمنوّعات. يمكن التواصل مع الكاتب عبر الحسابات التالية:

مدونات أخرى