إنجاز أنّ في رأسنا عقلاً

إنجاز أنّ في رأسنا عقلاً

03 أكتوبر 2017
+ الخط -
(عن حزب البديل)
حقّق حزب البديل العنصري نتائج مخيفة ومرعبة في ألمانيا. النسبة هي 13.5% (عدد سكان ألمانيا هو 80 مليونا). ويقع بذلك الحزب في المرتبة الثالثة، إذْ حلَّ أوّلاً حزب ميركل بـ 32.5%، وحزب شولز ثانياً 20%. كالعادة، استطلاعات الرأي توقّعت أنّ اليمين الشعبوي العنصري، أي AFD، لن يحقق نتائج كبيرة. ولكن هذه الاستطلاعات، والتي صارت مملّة، لا تتعلم من تجاربها في أميركا حين فاز ترامب. وفي بريطانيا لمّا خرجت من الاتحاد الأوروبي، حيث خابت الإحصاءات فورًا، وكانت مسؤولة عن تورّط كاميرون في إجراء البريكست. هنالك عدَّة أسباب تجعل استطلاعات الرأي هذه غير دقيقة، منها أنَّ المواطن اليميني الشعبوي لا يثق بالإعلام، الذي يصفه بإلإعلام الليبرالي المتآمر، ويراه مسيّساً وموجهاً ضده، لأن الإعلام الليبرالي، حقيقة، يحرّض ضد اليمين ليل نهار، فكيف سيقبل الناخب اليميني المشاركة في استطلاعات الرأي التي تصفه بالعنصري. كما أنَّ الكثير من أعضاء الأحزاب اليمينية الشعبويَّة هم أفراد ضعيفو الثقافة التكنولوجية والتعليم، ولا يمتلكون نفاذاً إلى العالم الرقمي، وبالتالي يظهرون فقط في اللحظة الانتخابيَّة. أمّا السبب الأهم، برأيي، هو أنّ اليميني العنصري، أحياناً، يخجل من إبداء رأيه في الفضاء العام، بسبب سيطرة القيم الليبراليّة الغربيَّة، والتي تجعل الصوت اليميني الشعبوي الفردي أمرًا محتقراً وعيباً، لذلك يبقى هذا الانتماء سرّاً، لا يظهر في استطلاعات الرأي، ويظهر فقط في اللحظة الانتخابيَّة عند الإقرار بالصوت الانتخابي. حزب البديل هو القوّة الثالثة الآن، حزب قال رئيسه اليوم، إنّ الألمان يجب أن يكونوا فخورين بأداء الجنود الألمان في الحرب العالميّة الثانية، الجنود الألمان النازيون الذين أحرقوا ملايين اليهود. مبروك للدكتور بشار الأسد، مبروك للأستاذ والأب الروحي لليمين العالمي بوتين. ومبروك للناشط الحقوقي، مؤسس العفن الحالي، الرئيس السلمي باراك أوباما.

(تقرير المصير)

مارس الألمان حقّهم بكل أريحيّة في تقرير مصيرنا، نحن اللاجئين!

(مشبوهو العصر) 

يشكُّل السوريّ في المطارات مصدر رعب وقلق، فحصٌ دقيق للفيزا، إن وجِدَت، ونظراتُ مشبوهة، واتّهام حتّى لو ثبتت براءتك، ودومًا ثمّة وقت إضافي للتأكُّد من شيء ما غامض. في البنوك، ثمّة صعوبات وقيود على الدوام، إذ يحقّ لك أن تستقبل ولا يحقّ لك أن تحول مثلاً. في النقاشات السياسيَّة لأي انتخابات غربيَّة، يشكّل السوريون مادة للاختلاف أو الاتفاق، حول حقّهم في البقاء أو عدمه، وعلى ذلك تتشكّل استقطابات وتحالفات وشروخ. تُناقَش أزمة اللاجئين السوريين مع أزمات المناخ والكوارث الطبيعيَّة والأمراض المستعصية حول العالم. في جلسات الاتحاد الأوروبي يدبّ الخلاف بين الأوروبيين حول ضرورة "العدالة" في توزيع اللاجئين السوريين بشكلٍ متساوٍ. العدالة (وهي من مبادئ الثورة الفرنسيَّة) في اقتسام الكارثة، وحقّ الجميع بالتساوي في تجرُّع كأس السم. نجاحُ السوري مُدوٍّ، وفشله مدوٍ. بشرٌ فائضٌ عن الحاجة احتار الجميع بأمرهم. إن ارتكبَ سوريٌّ جريمة، فهي غير كل الجرائم على سطح كوكب الأرض، لأنَّها كافية لتغيير القوانين بحق أقرانه، وإطلاق مظاهرات احتجاج، وإشغال الصحف، وتصدُّر نشرات الأخبار. السوريون جعلوا الجيش اللبناني المسكين يشعرُ فعلاً بأنّه جيش. أردوغان يقول للأوروبيين بأنه "سيفلّت" اللاجئين السوريين إلى الغرب، والنسر على الباسبور السوري ما زال مفرود الجناحين. 
بالتأكيد مفرح لو سقط نظام بشار الأسد، ولكن هذا التشرّد المهين، جعل سقوطه أمرًا عادياً… أمرًا لا طعمة له فعلاً.

(الجحيم السوري)

بلد "عطيني هويتك"، والسيَّارات المفيَّمة، والزنود الموشومة بصورة الأسد. بلد التجنيد والخوف من الجيش، والدوائر الرسميَّة الشاحبة. بلد "أحكي عربي ولاك". بلد نُعوت "البجم" و"المتخلفين" و"البدويين" التي يطلقها الأغنياء على الفقراء. بلد علي الديك، والأغاني المفروضة بـ"الكندرة"، وقصائد العتابا في الكازينوهات. بلدٌ يُفصَل بناتها عن شبابها في المراحل الدراسيّة الإعدادية والثانويّة، وتكتظ وجوه المراهقين بحبوب الشباب المحتقنَة. ويلاحق طلابها وأساتذتها الذكور الآنسات الشابّات. بلد تبادل فيها مجتمع الشباب المراهق "الأندر غراوند" أفلام "السكس"، ذات العناوين الغريبة كـ"نورمان أسعد" و"بائعة الحليب"، ويحضرونها سرًا خوفاً من الأهل. بلدُ يراقب الأهل مراهقيهم، لمنعهم من ممارسة العادة السريّة. بلدٌ يُعْتقَل فيها المثليون ويعذّبون ويهانون من قبل رجال المخابرات، ويتم تحذيرهم من "تشكيل تجمّعات". بلد بونات السكر وطوابير الانتظار الطويلة و"صف على الدور ولاك". بلد البضاعة الحلبيّة الفاسدة، وعلب السردين مُنتهية الصلاحيّة. بلد المخبرين والوشايات والإشاعات. بلد خدعتنا بماركة Adibas بدلاً من Adidas. 
بلدُ يولد فيها أي إنسان، ويحلم بالسفر من أوّل لحظة.


(عن الكابوس المشترك)
القاسم المشترك الأكبر بين الذين عاشوا في سورية، هو الكابوس الليلي المشترك. هذا الكابوس، فعليّاً، هو أساس "الهويّة الوطنيّة السورية". رأيتُ أكثر من صديق يكتب عنه. عناصره هي على الشكل التالي: يرى السوريّ في المنام أنّه في البلد زيارة، وأنّه في المطار للعودة إلى ألمانيا، أو أي بلد لجوء آخر، فيتم إخباره بأنه لا يستطيع العودة، إمّا لأنه مطلوب، أو لأن تأشيرته توقّفت، أو لأنّ شيئاً ما حصل. شخصياً ثمّة عنصران إضافيّان في كابوسي. الأول، هو أني أرى "زملائي الأطباء" في "الاتحاد الوطني لطلبة سورية" وهي المنظمة الإرهابيَّة التي أدخلت الرعب والذعر إلى قلوبنا. والثاني، أرى نفسي في امتحان البكالوريا حافياً ولم أدرس حرفاً. وقتها، يستيقظ أي سوري، مذعورًا وهو يلهث، ليكتشف ويرتاح بأنّه ليس في سورية. 
سورية الأسد، بلد الكوابيس، هي بلد مبروكة عليك يا عصام زهر الدين.

(ممر إجباري)

لولا مجازر الأنفال على يدّ صدام حسين التي دفنت 180 ألف كرديّ (لاحظوا التسمية "الأنفال"، وهي آية قرآنية على فكرة). لولا النظرة الإباديَّة للبعث الصدامي تجاه الأكراد (وعموم العراقيين بكلّ الأحوال). لولا عبارة "احكي عربي ولاك". لولا المنع من تسميّة الأطفال بأسماء كرديَّة في سوريَّة، في أبشع درجات الاستحواذ على البشر. لولا تغيير أسماء المدن والقرى ذات الغالبيّة الكرديّة في سورية، فتجد أسماء قرى مثلاً، كـ"قريش"! سنقول أيضاً: يقومُ الآن حزب العمال الكردستاني وفروعه بتكريد لأسماء قرى ومدن عربيَّة لا وجود للأكراد فيها، مستنسخاً سياسات البعث الأسديّة. ولكن لا تخفف جريمة من وطأة جريمة... فلولا اقتصار الأكراد على المهن التي يعتبرها المتن الاجتماعي رديئة ورثّة، كالعمل في المطاعم وتلميع الأحذية، بسبب الفقر. لولا جرد الجنسيَّة من نصف مليون إنسان، كانوا يُعرَّفون بورقة حمراء، ويحتاجون إلى موافقة أمنيّة للزواج. لولا كلّ هذا البشاعة والمسخرة، لما تحمَّس الأكراد للاستفتاء في إقليم كردستان العراق. رغم أنّ سلطة الإقليم غير ديمقراطيَّة، ورمزها البارزاني عشائريّ، وأسرته موغلة في الفساد، إلا أنَّ الدولة القوميَّة ممرُّ إجباري لتكوّن الشخصيّة الكرديَّة السياسيَّة وتطوّرها. وقمع هذا المطلب لن يؤدّي إلا إلى التهابه وتأزيمه. ليت الدولة العربيّة ما بعد الاستقلال تمكّنت من تحقيق المواطنة، والحفاظ على كرامة الناس، وإنجاز التنمية، وحلّ مشاكل الأقليات، وبناء دول ديمقراطيّة عادلة، وقتها، من كان سيطالب بالانفصال أو الاستقلال؟ على الأكراد أن يجرّبوا مرارة الدولة القوميَّة، لأنَّ كل أحد لا يتعلّم إلا من كيسه. 

وكي نتعلّم من كيسنا، أنا مع استقلال إقليم كردستان العراق.

شخصيّاً، لست قومياً، وأنا ابن الثقافة العربيّة الإسلاميَّة. أحلامي باللغة العربيَّة، وعندما أكون وحيدًا، أتكلم وأناقش نفسي بالعربيَّة، نقاشي الداخلي ناطقٌ باللغة العربيَّة، كبرت في فضاء الثقافة العربيَّة، ولديّ علاقة خاصّة مع اللغة. مدينة مثل دمشق هي أقرب إلى قلبي من أربيل. أربيل هي مدينة محافظة اجتماعياً، والمعيشة فيها غالية، وتشبه دبي، وحتّى تشرب زجاجة بيرة عليك أن تسوق سيارتك وقتًا طويلاً، كما أنَّ نمط حياة السكان هناك، مختلف تمامًا للناس الذين عاشوا في دمشق. لا أفكر طبعًا بالاستقرار في أربيل، فلا أستطيع العيش هناك. وأصدقائي كلّهم سوريون عرب. وفي سورية، إذا حصل أي استفتاء مشابه، فإني من طرفي سأصوت بـ"لا". الوضع في سوريّة سياسيًا وتاريخيّا وديموغرافياً ونفسياً واجتماعياً مختلف عن العراق، وما يقوم به حزب العمال الكردستاني وفروعه ليس سوى كارثة أخلاقية وتاريخيّة.

(عن ألمانيا التي لم تدمّر)

13% من الشعب الألماني انتخبوا حزبًا نازيّاً، دعا أحد متحدثّيه إلى الافتخار بالجنود الألمان في الحرب العالميّة الثانية، أي جنود نظام هتلر الذي ارتكب الهولوكست. 13% من الشعب الألماني تطرّفوا وانتقلوا لليمين بسبب مجموعة لاجئين خائفين وهاربين غالبيّتهم دمّرت بيوتهم ومنازلهم، يخجلون عند دخول الدوائر الألمانيّة الرسميَّة. ملايين الألمان صوّتوا لحزب عنصري، ولم تتعرّض ألمانيا لصاروخ "سكود" واحد، ولم تستخدم ميركل السلاح الكيماوي، ولم تسلخ جلود المعتقلين في السجون، ولم تحرق جثث المعارضين بالرأي.

تحيّة لكل سوري أو عراقي أو مصري لسّا في براسه عقل... لكن، ويفكّر بهدوء.

دلالات

دارا عبدالله
دارا عبدالله
كاتب سوري يقيم في العاصمة الألمانيّة برلين، من مواليد مدينة القامشلي عام 1990. له كتابان: "الوحدة تدلل ضحاياها" (صادر عام 2013) و"إكثار القليل" (صادر عام 2015). يدرس في كليّة الفلسفة والدراسات الثقافيّة في جامعة "هومبولدت" في برلين. من أسرة "العربي الجديد" ومحرّر في قسمي المدوّنات والمنوّعات. يمكن التواصل مع الكاتب عبر الحسابات التالية:

مدونات أخرى