ولدتُ لاجئاً

ولدتُ لاجئاً

19 يناير 2017
+ الخط -
أنْ تكون كُرديّاً في مدينة مثل القامشلي في الشمال السوري، يعني أنّك فردٌ مَشكوك بوطنيَّته السوريَّة، ويتجهَّز للانفصال. أصوله مُلتَبَسة، وجذوره مهاجرة من تركيا أو من جبالٍ غامضة. لغتهُ محظورةٌ في الفضاء العام، وهويّته محض تساؤل، أي أنَّك لاجئٌ مشبوه ومؤقّت في المكان الذي ولدت فيه، وطريق"الاندماج" الوحيد، هو أن تكون عربيّاً!


بعدها، ذهبتُ إلى دراسة كليّة الطب في جامعة دمشق. المسافة بين مدينة القامشلي ودمشق، مدتها بالباص 13 ساعة. نصف العواصم العربيّة، وحتّى تل أبيب، أقرب إلى دمشق من القامشلي. إذا حلقت ذقنك في القامشلي، فإنها ستنبتُ وتغمقُ لحظة وصولك للشام. هنالك، كنا لاجئين أيضاً. نحكي اللغة الجزراوية الغامضة غير المفهومة، والعربيّة الفصحى، ونصبح مهزلة لمّا نحاول أن نحكي بالشامي.

نواجه يوميّاً الأفكار المسبقة، ونظرة الاستشراق المحلي، تجاه الأكراد خصوصاً، وأهالي الجزيرة عموماً. كان يعتقدُ بعضهم من أهالي دمشق أننا نركب الجمال، ونستحمّ ببول الإبل، ونستخدمُ المقايضة بالبيوض واللبن، بدلاً من العملة المحليّة. والسيف والمسدس هي الحل الوحيد لمشاكلنا العشائريّة الدائمة.

هذا غير النظرة العنصرية التحقيريّة تجاه الشوايا، وهذه مسألة أخرى. تجربة اللجوء هي تجربة تأسيسية في هويتي ككردي وسوري من منطقة الجزيرة. والكيان السوري الحديث المؤسس من حافظ الأسد، هو كيان الإحساس باللجوء وأنتَ داخله.

هكذا كيانات، لا تنتج سوى لاجئين إلى الخارج.

(الخجل من اللجوء)

ثمَّة إحساسٌ عميقٌ بالذلّ والإهانة، يشعر فيه بعض السوريين من لفظة "لاجئ" في الغرب عموماً، وألمانيا على الخصوص. تراهُ ينكرُ فورًا صفة اللاجئ، إذا ما سأله أحدٌ عن وضعهِ القانوني وصفته. يجيب "أنا ما قدّمت لجوءاً، أنا إقامتي خاصّة"، "أنا ماني لاجئ، أنا عندي وضع غير"، "أنا ما رح قدّم لجوء، رح حاول أمّن إقامة عمل"، وغير ذلك من أشكال التهرُّب.


هذا السلوك النفسي والاجتماعي، باعتقادي، غير سليم. "اللاجئ" ليس حكمَ قيمة سلبياً، وليس مرتبة اجتماعيّة دُنيا (يحق للاجئ في ألمانيا مثلاً الدراسة والعمل والارتقاء في السلم الاجتماعي والاقتصادي). اللجوء هو حق أساسي وأوّلي ومرتبط بحق الحياة. وتشكّل ملايين اللاجئين السوريين، يتحمّل مسؤوليّته بالدرجة الأولى، القوى العالميّة الكبرى التي تركت الحالة السوريّة تتحوّل إلى هكذا أوضاع كارثيّة. أي لاجئ يتشكّل، دليلٌ على خلل ما في الأنظمة السياسيّة الدوليّة. اللاجئ لا يتحمَّل مسؤوليّة هذا "العار" أبداً. وبالتالي، إنكار هذه الصفة، هو إنكار عمق هذه الأزمة.


نعم، نحن لاجئون، ولم نصبح لاجئين فورًا من الباب للطاقة. نحن لاجئون لأنّ الخطأ تُرِك يتعفّن، ولم يُحاسَب مرتكبه.

دارا عبدالله
دارا عبدالله
كاتب سوري يقيم في العاصمة الألمانيّة برلين، من مواليد مدينة القامشلي عام 1990. له كتابان: "الوحدة تدلل ضحاياها" (صادر عام 2013) و"إكثار القليل" (صادر عام 2015). يدرس في كليّة الفلسفة والدراسات الثقافيّة في جامعة "هومبولدت" في برلين. من أسرة "العربي الجديد" ومحرّر في قسمي المدوّنات والمنوّعات. يمكن التواصل مع الكاتب عبر الحسابات التالية:

مدونات أخرى