المرأة مدرسةٌ للتطرّف أو السّلام

المرأة مدرسةٌ للتطرّف أو السّلام

11 يناير 2017
+ الخط -

كلُّ عام و مع كلِّ مناسبة اجتماعيةٍ ثقافيةً كانت أمْ دينية، تنهالُ علينا الكثير من المنشورات الدَّعوية والإقصائية التي تُشعرنا بالعزلة و الغربة. العزلة عن كل ما تربينا عليه وعن ذكريات شكلت اللاوعي لدينا وتنامَت لتظهر في يوميّاتنا و احتفالاتنا وبهجتنا والغربة عن محيطنا وثقافتنا وإنسانيتنا التي ما زلنا نؤمن بامتلاكها.

تزامن قدوم عيد الميلاد هذ العام، على سبيل المثال لا الحصر، مع الكثير من الأحداث على جميع الساحات السياسية منها والاجتماعية.


من هذه الأحداث جرح كبير آلمَ إنسانيتنا بشكل لا يرحم، وأغلب الظّن، وليس من باب التشاؤم، سوف يندمل على ندبة غير جميلة ألا وهي رؤية الآلاف من الأمهات والأطفال مع ما تبقّى من حيواتهم وعائلاتهم يرحلون عن تاريخهم وأمكنتهم، حاملين ما تبقى من ذكرياتهم في حلب، إلى المجهول تحت ثلوج اعتادت أن تُفرح قلوب السوريين كل عام.


لكن هذا العام بالذات كانت كلّ ندفة ثلج كأنها سكين تذبَح ولم تكن تُرى كزينة للميلاد كما كنا نعتبرها ونتفاءل بها سابقاً. مع ذلك يحفر في القلب قبل الذاكرة وجوه الأمّهات الحلبيات يتوعّدن بالعودة لبيوتهن.

 من الأحداث المتزامنة، أيضاً، فيديو لمتطرف سوري يجهّز ابنتيه لتفجير نفسيهما باسم الدين، ونُصرةَ لقضايا المظلومين من أعداء الإنسانية الكفرة.


مشهد الوالدة تودّع ابنتيها في الفيديو يُظهر القناعة والتسليم بهذه المشيئة وهي تشد عزم ابنتيها على فعلتهما، مع أنّه لا يخفى على أي شخص لديه أدنى مستويات الذكاء العاطفي من أن يمسَّ في صوتها رعشة منكسر القلب، ولكنه المؤيد لهذه الإرادة العُلوية التي لا تناقش والتي يدعمها فهمها الخاص لدينها. مثل ظهور كهذا مهما كان التفسير للدافع وراء سلوكها يرسل الكثير من الرسائل للمتلقّين، خاصّة النساء منهنّ.

في مكان آخر، ومن ضمن عملي كمعالجة نفسيّة، لا يمكنني إلا أن ألحظ الطفل المبرمج، وذلك عندما أقابل أطفالاً قد حفَّظتهم أمهاتهم وهم من عدة خلفيات عربية، أنهم لا يستطيعون حتى الغناء للميلاد مع زملائهم في المدرسة. وألحظ الطفل يكرر عبارات بشكل آلي أنه محرّمة عليه هذه الفعلة لأنه مسلم، أنّ ما يحدث عمل للكافرين من الأجانب.


في لحظات كهذه، تذكرت طفولتي وشبابي في مدينتي المفضلة حمص، عندما كانت والدتي الحبيبة تصحبنا إلى المكتبات لانتقاء بطاقات المعايدة، والتي يزينها بابا نويل والثلج. ونكتب عليها أجمل العبارات، والتي ما أزال أذكرها من كثرة ما شدّدت الوالدة على سلامة عباراتنا نحوياً ودينياً.. حيث إنه يجب أن نذكر أمتناننا وسعادتنا لولادة السّيد المسيح عليه السلام. ولا يتوقف الأمر  عند الكتابة، بل يتعدّاها لنلزم أدبيات تقديمها مع زيارات بيتيّة لزملائنا، وحتى مدرسينا.


هذه المشاركات الفعّالة و ارتداء أفضل ما لدينا لنشارك الجميع أفراحهم وأعيادهم، كانت أحد طقوسنا التي تزامنت مع تعليمها لنا أصول ديننا و ممارساته و الصلاة في المنزل معها، وشكّل هذا جانباً مهمّاً من شخصياتنا و تطورنا النفسي و العقلي والعاطفي. نوع كهذا من التنشئة الاجتماعية يساعد في تكوين شخصيات منفتحة على الآخر ، متقبلة لاختلافه ويصعّب عليها آليّة فهم ما يحدث من تطرّف وإقصاء.

يخبرنا علم النفس التحليلي، عن دور الأم وعلاقتها منذ الأسابيع الأولى في تشكيل مفهوم الذات لدى الطفل، ونظرته وعلاقته بالعالم الخارجي، بدءاً من استجابتها لبكائه عند الحاجة إلى طعام أو نوم، وإشعاره أن نداءه ملبّى، و أنه يستطيع أن يثق بها، وبالتالي بالعالم من حوله، انتهاء بتربيتها له على الأخلاقيات و التّواصل الاجتماعي.


وبسبب الدور المتنوّع الذي تلعبه المرأة عبر المجتمعات كزوجة وأم وراعية، فإنها نُصّبَت الحارس للقيم الاجتماعية والثقافيّة والدينيّة، وجرت موضعتها بشكل فريد لتنقل وتمجّد هذه القيم للأجيال اللاحقة. وبالتالي دورها ثنائي الفعل، فقد تنقل شيئاً مليئاً بالتسامح والتقبّل. وقد تنقل كل أفكار المظلومية وتمجيد الشهادة والرفعة عن باقي الجماعات والأديان، وبالتالي تكون بيئة مُهيّئَة للتطرف والعزلة النفسية والاجتماعية.

إنّ ما يدفع المرأة للتّطرف و اعتناق أفكار إقصائية، ليس دورها الجندري، فالدراسات تعلّمنا أن ما يدفع الرجل هو ما يدفع المرأة إلى مثل هذا معتقد ومنهجية، والتي منها الأسى الناتج عن الظروف السياسية والاجتماعية.. كموت عزيز بسبب تلك الظروف، أو الشعور بالإذلال على مستويات نفسيّة أو جسديّة أو سياسيّة، سواء كان هذا الإذلال حقيقياً أم متخيَّلاً.


يضاف لها الالتزام المفرط بأفكار دينية أو أيديولوجيّة، و أحياناً النية بالكسب المادي من التزام كهذا. وفي أحيانٍ أخرى يكون رغبةً بإحداث انقلاب اجتماعي جذري.


و من الجدير بالذكر أن هذه الدراسات وَجدت في المجتمعات المتشددة بأن النساء يُعزلن اجتماعياً و تعليمياً و حتى صحيّاً، ويتم إجبارها على لعب الدّور المتطرّف.


ولكن ليس من الإنصاف حصر المرأة بهذه الخانة، لأنّه يجرّدها من دورها الفاعل بملء الإرادة الناجم عن قناعات وخبرات متراكمة، فإنها حتى لو لم تكن فاعلة كقيادية أو منفذة لعمليات إرهابية، فإنها تلعب دورها كداعم أيديولوجي وتحضيري تعبوي للتهيؤ لبيئات وأفعال كهذه.

لذلك في أي مجمع يُنتج التّطرف مهما كان نوعه، يجب النظر إلى وضع المرأة فيه ومدى تمكينها ودعمها، لأنهن وحدهنّ القادرات على خلق بيئات تعتنق التعدديّة. والتعدديّة ليست بتواجد مناطقي لديانات أو ثقافات بشكل متجاور، ولكن فعلياً من خلال أن تكون منفتحاً على الجميع من حولك، تتعلم عنهم ومعهم من دون التخلي عن كينونتك وخلفيتك الثقافية والعقائدية، وتسمح للآخر بالمثل، في جو يسوده الاحترام، حتى لو لم يقنعنك ما يعتنقه الآخر.


ومن دون إعادة لكلشيهات فقدت حمولتها المعنويّة لتكرارها، ولكن الأم فعلاً مدرسة تعدُّ أجيالاً. وفي خضمّ ما نعيشه محلياً وعربياً، فإنّ لا وعينا يتمركز في نسائنا وبنات مجتمعنا، وفي أي فكر يحملن وينقلن عبر البلدان والأجيال.

وبالعودة إلى صوت الأم الحلبيّة التي تجرّ طفلها متوعّدة بالعودة، يمكنك الجزم بعودتهن، فالمرأة وحدها قادرة على خلق جيل يعود.

 

 

 

 

دلالات

4AE705A2-8AD2-4755-B1FA-E1101218D762
ايفانا ورد

ناشطة في حقوق المرأة ودورها ضمن مجتمع تعددي بخبرة تزيد عن عشر سنوات مع هيئات مجتمع مدني ومؤسسات حكومية وغير حكومية. معالجة نفسية متخصصة في الصدمة النفسية ومواجهة القلق والاكتئاب النفسي. تقول: "لمواجهة الاستبداد في أي مجتمع و ضمان الوصول لمجتمع ناجح لابد من التعددية الفكرية والتي هي أبعد من التعددية العرقية أو العقائدية وهي منطلق بحثي وعملي".

مدونات أخرى