موعد مع النسيان

موعد مع النسيان

08 ديسمبر 2016
+ الخط -

- أين ذاهب يا أستاذ؟

- إلى باريس

- لو سمحت التذكرة

- قالها لي بنفاد صبر

- تفضل

موظف المطار يتفحص تذكرة السفر سريعاً ويمط شفتيه اللتين عليهم آثار الدخان، قائلاً في حزم: عد يا أستاذ من حيث أتيت.. يعني بالبلدي يلا روح بيتك.

- لماذا؟

قلتها أنا بفزع شديد، بل وبسرعة واستغراب خوفاً من أن أكون ضمن قائمة رجال الأعمال المتعثرين أو المعارضين السياسيين الممنوعين من السفر رغم أنني كنت لا أنتمى لهؤلاء أو أولئك.

ردّ علي بسرعة وقد علت وجهة ابتسامة صفراء وعلامات قرف: يا أستاذ موعد طائرتك كان بالأمس وليس اليوم، الطيارة طارت قبل 24 ساعة، قالها وهو يشير بيده للسماء وكأنه يخاطب شخصاً بالإشارات.

وكي يغيظني أكثر، واصل كلامه: لسه فاكر تجي اليوم للمطار.. صح النوم.

ولم يفوت موظف أمن مطار القاهرة الفرصة في أن يعطيني دروساً في ضرورة الانضباط والالتزام والحفاظ على المواعيد.

- يا أستاذ.. حضرتك صحافي، يعني لازم تكون منضبط في مواعيدك.. لازم تكون قدوة للناس.. كيف تعظوننا كصحافيين كل يوم وتنصحوننا بضرورة الانضباط، وأنتم أول من يخالفون هذه التعليمات.

هكذا قالها وهو ينظر في تذكرة راكب آخر ويطلب مني إفساح الطريق وإنزال الشنط من على السير حتى لا أعطل الطابور أو أحداً عن طائرته.

أعود أنا من المطار وأجر ذيل الخيبة، ذلك لأن مؤتمراً دولياً مهمّاً أضعته بنسياني موعد الطائرة، ولأن هذا المؤتمر كان مهماً بالنسبة لي، خاصة مع أهمية المشاركين فيه والقضايا المطروحة على أجندته.

وفي المسافة بين المطار وسيارتي، التي تعوّدت أن أركنها في المطار طوال فترة السفر التي لا تزيد في العادة عن ثلاثة أيام، كي لا أقع فريسة مافيا ولوبيات التاكسيات. كنت أعاهد نفسي ألا أنسى مواعيد مقبلة قط بعد اليوم كي لا أضع نفسي في حرج.

وبعد أيام، تلقيت دعوة لحضور مؤتمر اقتصادي يعقد في العاصمة اللبنانية بيروت. أطلب من زوجتي تجهيز شنطة السفر ليلا لأنني سأتوجه للمطار في الصباح الباكر.


أذهب للمطار.

- صباح الخير

أدخل على موظف المطار وكلي ثقة من نفسي ومواعيدي، وكأنني أريد أن أرد له الصاع صاعين هذه المرة.

- إلى أين أنت ذاهب يا أستاذ؟ يسأل الموظف من دون أن ينظر إلي كالعادة.

- بيروت.

- ضع الشنطة على السير.

- حاضر.

- أين تذكرتك؟

- تفضل.

بعدها ينظر لي من أخمص قدمي وحتى آخر شعرة متبقية في مقدمة رأسي، ويعود ليستجوبني.


- قال.. أين ذاهب يا أستاذ؟

- بيروت.. بزهق أرد.

- متى موعد طائرتك يا أستاذ؟

لا أرد بكلمة "الموعد اليوم"، فهي بديهية ومكتوبة أمامه في تذكرة السفر، بل وأطلب منه التركيز في عمله بدلاً من استجوابي.

وأقول له: انظر يا أستاذ في تذكرة السفر، ففيها كل التفاصيل التي تستجوبني بشأنها.

ينظر إلي مرة أخرى باشمئزاز ويلقي بقنبلته موجها الكلام لي: يا ريت كنت أنت تعبت نفسك وبصيت (نظرت) في التذكرة شوية بدلاً من تضييع وقتي ووقت حضرتك.

وقبل أن أتفوه بكلمة أو يعلو صوتي إذا به يلقي قنبلته ليقل: عدي علينا بكرة يا أستاذ .. طيارتك غداً وليس اليوم.

أرجع مرة أخرى أجر أذيال الخيبة.

وحتى أخفى حرجي، لا أرجع إلى البيت مباشرة، بل أذهب للعمل حتى نهاية اليوم كي لا أسمع كلمة معتادة من زوجتي: "أنت محتاج طقم سكرتارية يمشوا وراك طوال اليوم حتى ينبهوك لمواعيدك".

موعدي مع النسيان لا حدود له، يبدأ من اللخبطة في أسماء أولادي، ولا ينتهي عند نسيان أسماء أصدقائي وأصحابي، خصوصاً عندما أقابلهم بعد فترة طويلة، وتكون كلمتي المعروفة لهؤلاء: هو أنا شفت حضرتك فين قبل كدة؟

خذ على سبيل المثال الحوار الدائر منذ سنوات بيني وبين أولادي:

أنا أنادي على محمد (ابني الأصغر): لو سمحت يا حبيبي هات كوباية مية.

فيرد: حاضر يا بابا.. بس أنا يوسف مش محمد.

أنا: تسنيم حبيبتي ناوليني ريموت التلفزيون، أو تعالي أبحثي لي عن فيلم لإسماعيل ياسين.

ابنتي: حاضر يا بابا.. بس أنا نهي مش تسنيم.


مواعيد السفر التي أنساها كثيراً واللخبطة في أسماء حتى أقرب الأقربين لي لا تختلف عن أمور كثيرة في حياتي؛ فقبل أيام، بعث زميل كان معي في المدرسة الابتدائية برسالة لي على "فيسبوك" هكذا كان نصها:

أزيك يا درش، (ما دام ناداني بكنيتي يبقي عارفني كويس)، أنا فلان، كيفك وكيف الأولاد، فاكر عندما كنا نتنافس على المركز الأول في امتحانات المدرسة.

فركت عيني لأتذكر الاسم والموقف الذي يحكي عنه، سألت من حولي: هل تعرفون هذا الاسم، وكان الرد منطقيا: وهل نعرف أصدقاءك قبل أربعين عاماً؟ يا ريت تسألنا عن أصدقاء اليوم. حاولت قدر الإمكان أن أتذكر الاسم أو أي شيء يذكرني به. دخلت على بروفيله لعل الذاكرة تعود، لكن بدون جدوى.

إذن لا يتفوق عليّ أحد في النسيان سوى ذاكرتي المخرومة. خذ هذا المثال الصارخ، فأنا طوال حياتي أعمل في عدة أماكن في وقت واحد، وذلك من باب تنويع الخبرات وزيادة الدخل والتقليل من مخاطر التمسك بوظيفة واحدة ثم فقدانها لأسباب ربما تكون خارج إرادتك.


كنت أدخل مقرّ وكالة "الأناضول"، حيث كنت أعمل بها رئيساً لقسم الاقتصاد، في الثامنة صباحاً وأسلم على السكرتارية.

 - صباح الخير.

تردّ السكرتيرة باستغراب: صباح الخير يا أستاذ، خير هو حضرتك غيرت إجازاتك.

فأردّ بسرعة وبمنتهي الثقة: لا.

فتصدمني قائلة: اليوم إجازتك يا أستاذ.

وكي أخفي حرجي، أدخل مكتبي وأفتح جهاز الكمبيوتر وأمارس عملي وكأنني لست في إجازة.

أما أظرف موقف لي مع النسيان فكان بعد نحو سنوات قليلة من الزواج.

في أحد الأيام الصعبة، ذهبت زوجتي للامتحان، حيث كانت طالبة في جامعة القاهرة.

وقالت لي ليلاً: غداً موعد الامتحان، وتسنيم ستذهب للمدرسة، (كانت في KG1) لازم تروح تجيبها عشان أنا سأكون في الامتحان.

 
قلت لها وكلي ثقة: حاضر.. لا تقلقي.

وبسرعة قالت: أوعى تنسى أنا عارفاك نساي.

قلت لها: وهل أنسى ابنتي أول فرحة في حياتي؟!

عادت صباحا لتكرر وتنبه: أوعى تنسى تسنيم، لأنه لا يوجد باص في المدرسة.

قلت لها وكلي ثقة: اطمئني.. ركزي انتي في الامتحان.. ربنا معك.

ولأن قلب الأم شفاف، فقد وقع ما حذرتني منه، ذهبت صباحاً للعمل وغرقت في الشغل كالعادة.

فجأة سمعت أذان المغرب. وتذكرت أن موعد خروج تسنيم من المدرسة هو الثانية ظهراً، أي أنها خرجت منذ نحو 3 ساعات؛ وإذ بي أقفز فجأة على سلالم الجريدة وأجري في الشوارع. في ذلك الحين، ومن شدة القلق، نسيت حتى أن أبحث عن تاكسي يقلني للمدرسة، الا أنني تنبهت لهذا الأمر بعدما أتعبني الجري في الشارع. قفزت في تاكسي كان يسير في شارع جامعة الدول العربية، فقد كانت المدرسة بحي المهندسين.


وبعد نحو عشر دقائق، أو لنقل عشر ساعات، كنت على باب المدرسة، لم أجد ابنتي ولم أجد أحداً بالمدرسة، يا ربي البنت تاهت.. أنا شخص غير مسؤول، رحت أركض في الشوارع الجانبية أبحث عن تسنيم، وصرت ألف على المحال التجارية، وأتساءل: لعلها تشتري شيئا وتضيع وقتها.

وعندما لم أعثر عليها رحت مسرعا للبيت، فوجدت الشقة مغلقة. يا ربي ابنتي اتخطفت، ومن الذي خطفها، أين ذهبت. لا، لم تخطف. هي تاهت. ماذا أقول لزوجتي، ضيعت ابنتي؟ وبينما أنا غارق في أسئلتي وغارق في الأوهام إذا بصوتي ملائكي يقول: بابا أنت جيت أنا عند طنط ( ...) صاحبة المنزل، جريت بسرعة لأحضنها خوفاً من أن تكون عينيها قد تفحمت من البكاء، فإذا بها صامدة لتسرد لي ما حدث.

قالت: في المدرسة قالوا لي أين بابا، قلت في الشغل، أين ماما، في الامتحان، طيب تعرفي عنوان البيت، لا، لكن أعرف الطريق.

حكايتي مع النسيان لا تنتهي عند هذا الحد؛ ففي أقل من عام، اشتريت أربع نظارات، وضاعوا والحمد لله، باستثناء واحدة اشتريتها منذ أيام. وأنا الشخص الذي لا يحافظ على هاتفه المحمول، بسبب نسيانه في التاكسيات والأماكن العامة والمقاهي التي عرفت طريقها حديثا.


على سبيل المثال، عندما أكون لوحدي في الشقة، من السهل أن اكتشف أنني لابس شبشب وذاهب به إلى العمل، أو أنني نسيت أن ألبس الحذاء أصلاً، وأنا ذاهب لمقر عملي، أو أنني ارتدي جوربا واحدا أسود والآخر رمادي.


أظرف حكايات نسياني مع السيارات؛ فكلها حكايات. ولا تتوقف عند حد عدم إغلاق السيارة لدى ركنها في الشارع، أو أمام المنزل ليلا، ولكن تتعدى إلى ما هو أخطر، فأنا الذي أنسى محرك السيارة شغال منذ وصولي إلى المنزل في المساء وحتى الصباح.


أذهب إلى شقتي وأنام وأنزل في اليوم التاني، أبحث عن مفتاح السيارة، لا أعثر عليه، فآخذ المفتاح الاحتياطي.

أنزل لاستقل السيارة، فإذا بالمحرك شغال منذ الأمس، وإذا بالأبواب مفتوحة. أما الصدمة الكبرى، فهي نفاد البنزين!

في أحد الأيام، نزلت من مقر الجريدة التي أعمل بها في الواحدة مساء كان معي صديق. قلت له: تعال أوصلك لأن الوقت تأخر ومواعيد المترو انتهت.

نزلت أبحث عن السيارة في الشوارع المجاورة، لم أجدها. لفينا الشوارع في المنطقة المحيطة. وكانت المحطة القادمة، هي أن نذهب لمقر شرطة الدقي القريب منا للإبلاغ عن سرقة السيارة. وبينما نحن في طريقنا للقسم، هاتفت زوجتي لأحكي لها عن الذي حدث وكيف أن سيارتي سرقت، فإذا بها تصدمني قائلة: السيارة موجودة أمام البيت، أنت تركتها اليوم لأن العجلة كانت نايمة، استعجلت وأخذت تاكسي.

الغريب في حالتي أنني سألت أصدقاء كثر: لماذا هذا النسيان، وكانت الإجابة بسبب طبيعة عملك، حيث الضغط اليومي الشديد والحياة يومياً وسط الأرقام والمؤشرات والاقتصاد.

أخاف على نفسي من زهايمر لا قدر الله. ربنا يستر وإن كانت الأبحاث الحديثة مطمئنة، فالزهايمر لا يقترب من الأشخاص الذين يفكرون كثيراً.

على العموم ربنا يستر، ووقانا الله ووقاكم شر النسيان والمواقف المحرجة المترتبة عليه.​..

دلالات

مصطفى عبد السلام
مصطفى عبد السلام
صحافي مصري، مسؤول قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة "العربي الجديد".