نحن "المطبعون"... وهم "الممانعجيون"

نحن "المطبعون"... وهم "الممانعجيون"

20 ديسمبر 2016
+ الخط -


ذات يوم قبل ربع قرن، وقبل أن يصبح لحارات غربتنا قبضاياتها، ملت على رفيق، في عزاء عربي، داعياً إياه وبعض رفاقه أن يكونوا ناشطين أكثر طالما أن "التاريخ يشهد"... مثلما قال مجاور على شمالي "هذا كان يعرف علي أبو طوق في شاتيلا".

الحق أن "الرفيق" كان يملك "بعد نظر". إذ إن جوابًا عن دعوتي تطلب "الحصول على الجنسية أولاً"... عذرت الرفاق؛ فالفارق لم يدركوه، بفعل حداثة الغربة، بين "الإقامة" واكتساب الجنسية...


في زمن من أزمنة ما قبل تيه البوصلة، وقبل أن يصير لحنظلة وجه استهلاكي، كان الجمع يلهث لالتقاط صورة... يرتدي بعضهم بدلته الرسمية، وينفخ صدره استعداداً لـ"يوم الأرض" وضيفه... أرهقناه ولم ندفع ثمن تذكرته... جالس وزير الخارجية السابق في كوبنهاغن، ليشكو الأخير للضيف ما يواجهه من لوبيات التصهين... لقاء تلفزيوني، وآخر في الخارجية، وندوة هنا ومهرجان هناك... وبابتسامة طلب إلغاء زيارة على قائمة الإرهاق..

وقبل أن يصير حنظلة إلى ما جرّه إليه هؤلاء ... فلأجل بشار يصير العقل مداساً... فاحتلال أميركا حرام وإمبريالي... واحتلال روسيا شيوعي رفاقي أممي...

مساء، إذ ظن "مخاتير" زمن الاغتراب أنهم قيادات في أقصى شمال الكرة الأرضية، والتي لا يجيدون من لغة أهلها ما يجعلهم يتخلون عن مترجم في قضاء نقاش بسيط عن قضيتهم... مطالبين ضيفنا، في آخر الليل أن يتمهل الانتقال إلى الفندق "ليروي تجربته" علهم يستفيدون منها!... ولأنك تحترم عقلك فلم تنقلب على ظهرك من الضحك على دراويش ذلك الزمان..

مؤامرة...

كنت حين عملت قبل سنوات لحساب"الجزيرة نت"، على ما يرام... فهي كانت "قناة الممانعة"... سنوات مرت، قبل أن أرى ذات صباح في "رام الله التحتى "يافطات عن "الجزيرة المتآمرة"... وفي الطريق إلى بيرزيت، ومثلها إلى القدس و نابلس، كان جنود الاحتلال يتسلون بنا بالقرب من يافطات شبيهة، في لعبة الأبواب الدوارة التي تشبه قود القطيع إلى المسلخ... واليافطة عن المؤامرة ليست بعيدة عن ناظرينا جميعاً... قلت لأبو سمير، وهو أستاذ جامعي في الإعلام: أي زمن هذا الذي نعيش يا أستاذ؟

في باب العمود، بعد أن تجولنا في مكتبات  ش. صلاح الدين، همس أبو سمير: لا تتعب نفسك... اربط الحمار أينما أراد أصحابه... لكنني كنت قد ربطت نفسي بتذكرة سفر مغادراً قبل أن أصير حماراً بحد ذاتي... ضحكنا في القدس... وعند أسوارها وباب العمود ثم باب المغاربة بكينا بصمت وحرقة...

لماذا تذكرت المؤامرة ها هنا؟

لأن بعض عقل التشيؤ العربي يعيدها، مذ صارت الجزيرة "خنزيرة"... ليس دفاعاً عنها، بل عن عقلي وعقولنا، التي يستحمرها هذا البعض، في اختراع مسميات "إعلامية" لا تشبه حتى ما كان عند الرفيق أو غوكو تشافيز... قبل أن يصير حنظلة مجرد زينة في فوضى "المؤامرة".


الرينة... تجاويف الأمان

بعد منتصف الليل بقليل كانت الحافلة قد وضعتني بعد رحلة طويلة من القدس فحيفا إلى الناصرة... اتصلت بهاشم حمدان بعد أن يئست من حلولي كلها للوصول إلى الرينة... بابتسامة ومن دون تذمر، كعادته وعادتها أنهينا تناول الزيتون الفلسطيني وجبنة بلدية... هاشم منشغل في الصباح بالصحف العبرية والعربية... ثم استمعنا إلى هذا الذي جاء رئيساً لأميركا يخطب ثرثرة عربية في جامعة القاهرة...

كان لابد من المغادرة... أن تغادر مضطراً رحماً يشعرك في هذا العمر بكثير من الأمان ليس أمراً هيناً... روضة، الأجمل غضباً وابتسامة وحرصاً على "ثقافة البلاد" سمحت لي بتجميع بعض الكتب في زاوية علّني أحملها مسافراً... هي رحلت... أبكتني السيدة الجميلة في وسط مشوار طويل... لكنها عرفتني على حيفا من أعلى نقطة فيها..


تطبيع وممانعة...

في تونس، قبل أربعة أشهر، وجدتني أفكر بكل ما سبق... رفاق الرفاق في مهد الثورات العربية اقتحموا مؤتمراً أكاديمياً عن "استراتيجيات المقاطعة لدولة الأبرتهايد"... يصرخون بلا عقول عن سقوط الرجعية... علم فلسطين كان بحجم الكف، بينما علم بشار وصوته يعلو فلسطين عشرات المرات... هل تصاب بشفقة على هذا العقل الذي لم يقرأ من عنوان المؤامرة سوى "التطبيع"؟

أشفق... نعم أشفق على العقل...

لكن كيف على شاعر عربي يقف على شرفة الطبقة الخامسة في بلد هاملت، وبجانبه طبيب، أصيبا أمام جمع عربي "مثقف" بلوثة من الشتم من تحت الحزام ضد كل العرب؟

ذكرني ذلك بهتاف في اللاذقية، أيام البعثة العربية "لا عرب ولا عربان... فلتحيا إيران..."... تصاب بـ"صفنة"... تفكر ألف مرة قبل أن تنزل إلى مستوى الحزام لترد...

وكيف إذا عدت لتجد نفسك قد صار لك تصنيف جديد "تطبيعي"؟ وممن؟

لا داعي للتكرار..." صورة يا دكتور"... هم، بعقولهم ذاتها التي شكت إلي عشرات المرات عما فعله بهم "حبيبهم" الممانعجي، لم يروا شيئاً سوى أن العقل أعتم أكثر بكراهية كل "إسلامي"... فتوهموا أن الدكتور و جورج صبرة وميشيل كيلو "إخوان"...


اليوم.. يمكن أن تقبل كل شيء، سوى أنك تعرف اليوم أي "وفاء" يقدمه المصابون بمتلازمة استوكهولم لجزار العصر ... فيصير الكل كاذباً... صحافة وفكراً...

أحياناً أفكر: لماذا لم يتحول مصطفى خليفة، صاحب "القوقعة"، إلى ذات المتلازمة؟

ربما لأنه رفض أن يُعلف دماغه وضميره بشعارات... أو أن يفتش عن وجه حنظلة بين "كراكيب" ما تركته لوحة دمار قام بها "الإرهابيون بطائرات وبراميل وصواريخ أُعدت للممانعة"، على ما تهلوس مراجعهم على قنوات مسح ما تبقى من خلايا موت العقل...

 

  

 

 

 

دلالات